حداثة سنه وقلة خبرته ، وعلى الرغم من كل ذلك لم يتوان لإنجاز رحلته عن روح المحب ، تلك الروح التى ساعدته على إنجازها ، بل والتخطيط لإعادة الكرّة مرة أخرى ليحقق الهدف الأساسى منها (اكتشاف النيجر) لولا أن منيته كانت أسرع من كل أمانيه.
لقد نجح هذا الرحالة الطموح فى أن يردف قارئة وراءه على ظهر دابته ليجوب معه قرى النوبة ونجوعها من أسوان وإلى آخر قرية حطّ رحاله فيها (شمال الخرطوم) وجعله يعيش معه هذه المغامرة الحلوة الصعبة الخطرة ، وأكسبه خبرات لم يكن يعرفها عن هذه البلاد ولم يسمع عنها ، ولو سمع عنها فربما لم يعرف غير اسمها ، ثم يجد نفسه وهو يلتهم صفحات هذا الكتاب ، يغترف منه كل معلومة عنها ، فلا يستطيع أن يتركه قبل أن يأتى على صفحاته. لقد بدأ رحلته من الشمال إلى الجنوب ، أى عكس جريان الماء فى نهر النيل العظيم الذى ارتوى من مائه طوال هذه الرحلة ، وربما اقتفى أثره فى بعض تنقلاته من قرية إلى أخرى ، فيسير هانئا مطمئنا بجواره حتى يبلغ حدود دنقلة ، ثم العودة مرة أخرى إلى أسوان ، والتوقف عند كل قرية من قرى النوبة ، خاصة القرى الكنزية الغنية بالمعابد للكتابة عن كل واحد منها بالتفصيل ، وترتيبها من حيث ضخامتها ودقة بنائها وروعة هندستها المعمارية ونقوشها وتماثيلها ... إنه لم يكتف بزيارته لهذه القرى وهو متجه ناحية الجنوب بل نجده يعيد الكرّة عند عودته ؛ مما يدل على إيمانه بهذه الرحلة وأهميتها ، وأيضا على قوة عزيمته التى لا تفلها الصعاب التى لاقاها ـ سبق الإشارة إليها ـ طالما كانت لخدمة العلم الذى يهون من أجله كل شىء ، وهنا ثار سؤال ألحّ كثيرا على ذهنى : ما بال شبابنا فى هذا العصر (القرن الواحد والعشرون) قد تقاعسوا وتكاسلوا وارتكنوا إلى الدعة والتواكل والاهتمام بتوافه الأمور ، وتقليد الغرب فى أرذل خصاله وسلوكه .......؟ ربما لعدم توافر الحافز العلمى لديهم ، وربما لانعدام الطموح عندهم ، وربما ليئسهم فى مستقبل أفضل ، وربما لإحساسهم بعدم جدوى ما يحصلّونه من علوم ، وربما كل هذا ، وربما أيضا القصور الشديد فى المناهج المدرسية المقررة ، خاصة مادتى التاريخ والجغرافيا اللتين أغفلتا أجزاء كثيرة من الوطن مثل سيناء وسيوة والواحات والنوبة ، فانعدم بالتالى التعرف عليها ، لقد انتابنى الحزن طويلا عندما سمعت محاضرا يقول أمام جمع غفير من المستمعين له فى معرض حديثة : إن الجالية النوبية ...