لقد استمر فى رحلته حتى وصل إلى شمال الخرطوم ، واضطره تعنت بعض حكام النوبة إلى العودة قبل أن يتم مهمته بالدخول إلى دنقلة (آخر بلاد النوبة فى الجنوب). وقد لاحظت على عرضه لهذه الرحلة عدم تعرضه لأى صناعة تكون قد صادفته هناك ؛ مما يدل على الفقر المادى والفكرى ؛ فإذا اقترضنا عدم توفر المواد الخام الزراعية ؛ فلماذا لم تقم صناعة على التعدين أو على الصيد مع توافر مناجم الرخام بأنواعه المختلفة ، وامتداد نهر النيل بطول البلاد ...؟
لقد استغرقت رحلة بوركهارت إلى بلاد النوبة ذهابا وإيابا ثمان سنوات اقتطعها من عمره القصر (٣٣ عاما) ، ولو عرفنا أنه دوّن كل ما صادفه فى هذه الرحلة لأدركنا مدى الجهد الذى بذله فيها ، خاصة أنه اضطر لاستخدام النوق فى تنقلاته ، وأن ذلك كان يستغرق منه ساعات طويلة يقضيها على ظهورها تحت وهج الشمس الحارقة ، ومع ذلك لا يركن إلى الراحة إذا ما حطّ رحاله فى إحدى القرى ، بل يروح يدون ما لاقاه ولاحظه خلال الساعات الفائتة ، فى الوقت الذى لم يجد فيه إلا لقيمات قليلة أو بعض التمر ليسد بها رمقه ، ومع هذا فإنك تكاد تحس بنبضه وحسه وصدقه مع كل كلمة تقرأها ، بل وكأنك تشاركه فى رحلته ... فى ذهابه وإيابه ومقابلاته ومعاناته ، لأن كل كلمة تنبض بالحياة.
إن هذا الكتاب يشمل الكثير من المعلومات ، فهو أدب رحلات ، وهو أيضا بحث اجتماعى يتناول حياة النوبيين ... عاداتهم وتقاليدهم وطباعهم وأخلاقهم وأصولهم وقبائلهم وسلالاتهم ، وهو أيضا كتاب فى التاريخ ، وفى الجغرافيا ، وفى الآثار ؛ فقد تناول بالتفصيل كل معابد المنطقة بأسلوب سهل بسيط سلس بحيث يستوعبه غير المتخصص .. أسلوب بسيط بساطة أهل النوبة الذين بسطوا له أذرعتهم واستقبلوه بحرارة مناخ بلادهم ؛ فأقبل عليها ببساطة أشد على الرغم من كل ما لاقاه من صعوبات ـ كما سلف وأوضحت ـ بدءا من قلة معلوماته عن المنطقة ومرورا بقسوة طبيعتها وخشونة طعامها وندرته وقسوة بعض حكامها وابتزاز بعض الأدلة الذين استعان بهم ، وتخلف وسيلة الانتقال الوحيدة التى اضطر لاستخدامها فى تنقلاته ، بالإضافة إلى