فى ربيع عام ١٨١٣ عدت من رحلتى التى سافرت فيها على ضفاف النيل حتى دنقلة ، فأقمت بصعيد مصر أترقب الفرصة للخروج مع قافلة للرقيق فى رحلة إلى مناطق النوبة الداخلية مشرقا عن رحلتى السابقة. وآخر القوافل التى خرجت فى هذه الرحلة سنة ١٨١٣ قافلة كبيرة قامت من أرباض أسوان قبل عودتى إليها بأيام قلائل.
فى هذه الفترة بدأ قاطع طريق يدعى نعيما «شيخ عرب الرباطاب (١) المقيمين فى بلاد مقرات ، ومقرات هذه على ضفاف النيل ، وتبعد رحلة ثلاثة أيام إلى الشمال الغربى من القوز» بدأ نعيم هذا يقطع الطريق على القوافل ، وكان قد سلب جماعات من التجار بضاعتهم ، وحلّ بالقافلة المذكورة ما حل بهؤلاء فى عودتها لمصر فى أكتوبر ١٨١٣. وفى شهر ديسمبر استطاعت قافلة كبيرة مسلحة من سنار أن تقتل نعيما ، فغدت الطرق مأمونة بعد موته. ولكن التجار مع ذلك أجلوا سفرهم للنوبة ، فقد نمى إليهم أن سكان الأقاليم الجنوبية المشرفة على النيل يتضورون جوعا لما طرأ على محصول الذرة من هبوط سببه الفيضان الشحيح ، وروى أن الزنوج التعساء برّحت بهم المجاعة تبريحا ، فكان الواحد منهم يقتل صاحبه من أجل حفنات من الذرة. ورأى تجار الرقيق أن تكاليف إطعام العبيد ستأتى على كل ما يرجون من وراء الرحلة من ربح ، فأرجأوها إلى المحصول التالى.
وكنت فى أثناء ذلك قد اتخذت إسنا مستقرا ، وهى تبعد ثلاثة أيام عن دراو محطة قيام القافلة. ولما كنت أوثر ألا يعرف الناس من أمرى كثيرا ، لذلك لم أكن أخالطهم إلا فى الضرورة القصوى. وارتديت أحقر ما يرتديه أهل مصر من ثياب ، ولم أنفق من المال إلا أقله ؛ فنفقتى اليومية على نفسى وعلى خادمى وبعيرى وحمارى لم تزد على شلن وستة بنسات ، أما جوادى فكان يكلفنى ستة عشر بنسا فى الشهر. ولكنى برغم كل هذه الحيطة لم أقو على دفع الظنون والشبهات ، فخالنى بعضهم ذا ثراء عريض ، وحسبنى غيرهم رجلا محظوظا هداه حسن الطالع إلى كنز دفين. وكنت أخشى الاشتغال بالتجارة لئلا يلجئنى ذلك إلى الاختلاط بالتجار فيشتهر أمرى بين الناس. ولكن القوم فى مصر لم يألفوا أن يروا رجلا
__________________
(*) لم يكن نعيم شيخا للرباطاب بل قاطع طريق من هذه القبيلة التى تسكن مقرات ، وقد حنق عليه العبابدة لسطوه على قوافل العطمور التى كانت تحت سلطانهم وقتلوه عام ١٨١٢ وحملوا رأسه إلى مصر وأرسلت أذناه إلى والى مصر فى الحجاز. (المترجم)