وقد اعتبر الخطابي نفسه اختيار اللفظ المناسب للموقع المناسب عمود البلاغة القرآنية فقال : الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه : أما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام ، وأما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة وذلك أن في الكلام ألفاظاً متقاربة في المعاني ، يحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب كالعلم والمعرفة ، والحمد والشكر ، وبلىٰ ونعم ، وذلك وذاك ، ومن وعن ، ونحوهما من الأسماء والأفعال والحروف والصفات مما سنذكر تفصيله فيما بعد ، والأمر فيها وفي ترتيبها عند علماء أهل اللغة بخلاف ذلك ، لأن كل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها ، وإن كانا قد يشركان في بعضهما » (١).
واستناداً إلى هذا المفهوم الدقيق في التمييز بين دلالة لفظ ولفظ ، وفروق قول عن قول ، فإننا نشير هنا على سبيل الأنموذج التمييز في القرآن إلى ثلاث خصائص مهمة في الدلالة تتجلىٰ في ثلاث ظواهر بيّنة :
الظاهرة الأولى :
إن اختيار القرآن للألفاظ في دلالتها إنما جاء متناسقاً مع مقتضيات الحال وطبيعة المناسبة وقد يكون ذلك التناسق صادراً لجهات متعددة تؤخذ بعين الاعتبار لدىٰ تجديد القرآن لمراد الاستعمال في الحالات الوصفية والتشبيهية والتمثيلية والتقديرية مما نستطيع التنظير له بما يلي :
أ ـ ما أراد به القرآن صيغة معينة لحالة معينة تستوعب غيرها ولا يستوعبها غيرها ، فإنه يعمد إلى اختيار اللفظ الدقيق لهذه الغاية فيتبناه دون سواه من الألفاظ المقاربة أو الموافقة أو الدارجة كما في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ (٣٩) ) (٢).
________________
(١) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : ٢٩.
(٢) سورة النور : ٣٩.