شجعوا المذهب العراقي لقربه من الخليفة العبّاسي. لكن في فترتنا هذه ـ أي إلى حدود ١٨٤ ه. ـ لم يأخذ هذا المذهب أو بالأحرى هذه المدرسة شكله النهائي وكان بصدد التكوين مع أبي يوسف وبالخصوص مع الشّيباني وهما من تلاميذ أبي حنيفة ومالك في آن واحد ، لكنّ" الأسدية" وهي سابقة عن المدوّنة اعتمدت عليهما. وكان مالك يدرّس في تلك الفترة ـ توفي ١٧٩ ه. ـ وانبثّ تلاميذه في مصر من أمثال ابن القاسم واللّيث بن سعد ، وقد بقيا وفيّين لشيخهما خلافا للشّافعي الذي رحل إلى مصر هو أيضا فكوّن مدرسة.
وقد كان تأثير مصر كبيرا في تقبّل المذهب المالكي في إفريقية ، لما للبلدين من علاقات وطيدة منذ الفتح وبسبب القرب الجغرافي. ويروي النّباهي أنّ ابن غانم كان يرسل أسئلة إلى مالك بخصوص المشاكل الفقهية الشائكة ، وكان هذا يجيب عن طريق ابن كنانة (١). وهكذا يبدو المغرب تابعا للشرق المركزي (٢) الذي أفرز المدارس الفقهية ، مثله في ذلك كمثل كلّ ولايات الأطراف بما في ذلك مصر وخراسان.
لكنّ المصادر لم تحتفظ لنا بمحتوى الأحكام القضائية لا في الفترة الأموية كما ذكرنا ولا في الفترة العبّاسية. فوكيع بن خلف ، صاحب كتاب أخبار القضاة لا يذكر شيئا عن إفريقية. حتى في العهد الأغلبي ، حيث راجت المذاهب واستوعبت ، لسنا ندري هل أنّ المدوّنة كانت في عرضها المطوّل للمسائل الممكنة ـ وحتى الخيالية على الأغلب ـ كانت تستعرض مشاكل واقعية طرحت نفسها على القضاة السابقين. وكلّ ما يذكر عن سيرة سحنون هي مواقف من السلطة والقوّاد ـ أي مناقب ـ
__________________
(١) النباهي ، تاريخ ... ، ص ٢٥. لا ننسى أيضا أنّ مدرسة مالك راجت في الأندلس اعتمادا على تأثير الإفريقيين والمصريين من ورائهم. والأثر الكبير في الفقه المالكي هو واضحة ابن حبيب.
(٢) يبدو ذلك بوضوح في كتب الطبقات المغربية : مثلا أبو العرب ، طبقات ، ص ٣٤ ـ ٣٧ ؛ والمالكي ، رياض ، ص ١١٥. ولا يذكر وكيع في أخبار القضاة ، القاهرة ١٩٥٠ ، شيئا عن إسهام قضاة إفريقية في إبداع القانون.