إلّا أنه وفي الوقت الذي عاشت فيه إفريقية إدخال المشارقة للمشروع الأدبي العربي بطريقة سلبية ، كانت تردّ الفعل على المحتوى الديني الإسلامي بإدماجه في البعد الإفريقي البربري ، بشكل يجعل من الممكن التحدّث عن مدرسة إفريقية روحية.
في هذا المجال ، مثّلت القيروان المركز المشعّ كما هو مترقّب. ومثلما تصف لنا ذلك كتب الطّبقات ، وبتوخّي أكثر ما يمكن من التحفّظ فيما يتعلق بالإسقاطات التي تستعيد أحداث الماضي ، برزت تيارات التقوى والورع في زمن الولاة موسومة بنوع من الإقليمية الريفية القائمة على السذاجة الفكرية والحرارة اليقينية للمعتقد. من وجهة نظر تكوّن القضاء والحديث ، لم يكن الأمر إلّا زهيدا لأنّه لم يوجد مجهود ذهني يستحق الذكر ، وإنما وجد بحث سلبي في الأحكام الشرقية وأساسا أحكام مالك أو سفيان الثوري وأيضا أبي حنيفة ، وبهذا أمكن لإفريقيين الانزلاق في الأسانيد الصحيحة فاختلقوا ـ على حدّ تعبير حتى أصحاب المناقب ـ الكثير من الأحاديث التي يطغى عليها في أغلب الأحيان الكثير من السّذاجة (١). على المستوى اللاهوتي ، تواجهنا في إفريقية أهم الاتجاهات الإسلامية لذلك العصر : مرجئة ، قدرية ، ومعتزلة ، غير أن جميعها كان مخنوقا بسيطرة الاتجاه الأورثوذكسي البحت.
حسب رأينا ، كان الشعور الديني في حد ذاته أكثر أهمية من التفكير الدّيني ، لذلك يحق أن يحظى بالتعاطف والاهتمام ، خاصة وأن التوجه اللائيكي للاستشراق شوّه قيمة هذا النوع من التديّن وأفقده معناه ، وهو ما مكّنه من التحدث عن قيروان «متدين» مع كل ما لهذه الكلمة من تحقير ورياء.
في الحقيقة إن المقصود بالتديّن هو التوجه لعظمة الله المتشبّعة بالورع في معناها العميق ، وهنا نجد العقلية البربرية الساذجة والعاجزة عن السخرية أو الليونة ، وهي لذلك متصلبة وعنيفة طبعا ، غير أنها متفردة في
__________________
(١) رياض ، أورد ابن سعد ترجمة خالد بن علي عمران لوحده ، طبقات ، ج ٨ ، ص ٥٢١.