البربر إلى عنّابة حيث تحصّنوا. لقد وقع الإحساس بهذا العمل البطولي على أساس أنه ضربة قاسية ضد الحضور البيزنطي ، وإضرار خطير بالاستقلالية البربرية في نفس الوقت. من جديد ، كان البربر في حالة غليان ، فحاولوا تجميع قواتهم وقاموا بانتفاضة كبيرة لمواجهة التهديد العربي.
لقد تجسّدت آمال البربر في امرأة هي الكاهنة ، التي وإن كانت مقطوعة عن المساعدة البيزنطية غير المهمّة من الآن فصاعدا ، فإنها ستفرض نفسها كقائد أعلى لحركة المقاومة الثانية والأخيرة. إنّ الكاهنة واسمها الحقيقي دهيا بنت طابيتا بن تيفان ، كانت إذا ما صدّقنا علماء النّسب البربر ، أرملة «ملك» جراوة قبيلة «البتر» من جبال الأوراس الشرقية. واضطلعت الكاهنة بالوصاية على ابنيها أو أبنائها الثلاثة الذين كانوا صغار السن لتحمّل أعباء الحكم ، ففرضت نفسها عبر خصالها التنبئيّة وكفاءتها في القيادة. وحسب مخطط خاص بالمجتمع البربري ، تأخذ قبيلة كبيرة ومهيمنة زمام المبادرة ـ مثال جراوة هنا ـ فتنجح في تجميع تكتّلات أخرى حولها ، غير أنها تنذر دائما بالتفكّك. ويمكن أن توجد ، من دون شك ، في محيط الكاهنة بقايا لجيش كسيلة ، ولكن توجد هيمنة إثنية بتريّة لا يمكن أن تحجب عنّا مع ذلك التمركز النوميدي الأوراسي لكل حركات المقاومة هذه أي حركة كسيلة وحركة الكاهنة معا.
بمقارنة الحركة الأولى بالثانية ، يبدو أن الأخيرة كانت أكثر شدّة وأهمية ، إذا ما وقع مراعاة فخامة القوات العربية التي كان عليها أن تحاربها. فكسيلة لم ينتصر إلّا عن طريق هجوم مفاجئ أسعفه فيه الحظّ.
وسحقت الكاهنة الجيش العربي في أرض مكشوفة ، ولم يكن قائد البرانس ـ المرتبط بالبيزنطيّين والعرب في نفس الوقت ـ دون اتصالات مع عالمين منظّمين سياسيا ولكنهما خارجين عن البربر. أما كاهنة جراوة فقد مثّلت نقاء حركة بربرية في الجوهر ، وما كان ينقصها هو إدراك معنى الدولة.