فما
يسع المحقق ـ والحالة هذه ـ إلّا أن يعتدّ بالصبر في مواجهة هذه المشكلات ، ليخرج منها سالماً من تطرّق الأوهام . . إلّا أوهاماً هي من طبيعة الإنسان . أمّا
إنْ ضجر المحقق فَقَدْ فَقَدَ أقوى جننه . . ولا يأمل أن يخرج كتاباً أحسن من نسخة مخطوطة كغيرها من المخطوطات . ولا
يخفى أن من ملازمات الصبر الأناة لأن العجلة مظنّة السهو والوهم ، وليجرب المحقق نسخ المخطوط الذي يبغي تحقيقه ـ والنسخ مرحلة يسرع فيها المحقق بطبعه لأن التدقيق والتنقير سيأتي بعدها ـ ولينظر في مرحلة المقابلة ـ التي تأتي
بعد النَسخ ـ ليرى كم سقط من قلمه من كلمات وكم زاد من عنده ! ولئن
تسومح بالسرعة في مرحلة النَسخ ، فلا يمكن أن يتسامح بها في مرحلة الضبط . . وما يضير المحقق أن يصرف من وقته ساعات ـ بل أياماً ـ منقّباً في بطون الكتب مراجعاً للعارفين بالفن . . لضبط مشكل أو تصحيح تصحيف أو إيضاح غامض . وما
أشبه عمل المحقق المتأني باللؤلؤة الطبيعية في جوف المحارة تستوي كما أراد لها الله تعالى ، ثم تكون زينة تزري بالاُلوف من لؤلؤ الصناعة السريع إنتاجه . ٦
ـ الأمانة : يعتز
الكاتب بكتابه اعتزازاً بالغاً قد يوازي اعتزازه بولده أو يزيد ، لأنّ ولده امتداد له إلى عدة عقود من الزمان بينما كتابه امتداد خالد له ونعني بالخلود هنا
مفهومه الأرضي أي البقاء الطويل ـ والانسان بطبعه مفطور على حبّ البقاء ، وما أهرام مصر . . وما تحنيط جثة لنين الملحد الّا شاهد صدق على هذا . فالمؤلف
عندما ينهي كتابه ويضع فيه أعزّ ما عند الانسان ـ فكره ـ إنّما يتركه أمانة في أعناق الأجيال ، وهو لا يرضى بتغييره أو تحويره ، وقد نبّه بعضهم في
أواخر كتبهم على هذا ولعنوا من بدّل أو غيّر في مؤلفاتهم . وما
أسوأ ما صنع ناسخ التفسير العظيم ـ تفسير العيّاشي ـ حيث حذف أسانيده ، وفي هذا التفسير من درر أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما لا يوجد في غيره ، ولو وصلنا مسنداً لكان شأنه في العلم والفكر أيّ شأن . فقد
جنىٰ ناسخه ـ كما ترى ـ جناية علمية كبرى في إغفاله الأمانة عند