فكيف يحكم بصدق إنسانية زيد المعدوم في الخارج ، وكذب حماريته ، فإن كانت الاُولى صادقة فلتكن الثانية أيضاً كذلك ، وإن كانت الثانية كاذبة فلتكن الاُولى أيضاً كذلك ؟
والجواب عنه : إنّ قولهم : الصادق هو الذي له مطابق في الخارج دون الكاذب ، لا يعنون بذلك الخارج ، الموجود العيني الخارجي ، المقابل للذهني ، أي الخارج عن وعاء الذهن ، بل مرادهم من ذلك الخارج : هو الخارج عن اعتبار العقل ، أي الخارج عن الفرض العقلي الذي هو الوجود الفرضي المذكور .
فكل قضية لها مطابق بأحد قسمي الوجود الحقيقي ، فلها خارج ، فهي صادقة سواء كان ذلك الخارج عن الفرض العقلي المختلق خارج الذهن أو كان موجوداً ذهنياً . فالخارج على هذا المعنى أعمّ من الخارج المقابل للوجود الذهني ، فلا يلزم من عدم مطابقٍ للخبر في الخارج بالمعنى الأخص أن لا يكون له مطابق فيه بالمعنى الأعمّ .
فنقول إيضاحاً : إنّ كل واحد من الصدق والكذب من أوصاف القضايا ومحمول عليها ، فالقضية إن كانت لفظية أو كتبية ، ولها مطابق في وعاء الخارج ، المقابل للذهني فصادقة وإلّا فكاذبة ، وإن كانت ذهنية فإن كانت لها مطابق في وعاء الذهن من المعاني الوجودية الحقيقية الذهنية التي هي خارجة عن الفرض العقلي المختلق ، فهي صادقة ، وإلّا فكاذبة .
فإن قلت : إنّ الضرورة قاضية بأن الموجود الحقيقي إما خارجي وإما ذهني . والخارجي شامل لجميع صور الحقائق الوجودية : من الواجب والممكن ، والذهني أيضاً شامل لجميع المعاني والصور الذهنية ، وليس وراء الوجودين أي الخارجي والذهني أمر آخر يسمّى بنفس الأمر حتى يحتاج إثباته الى برهان .
قلنا : قد أجاب عنه بعضهم في إثباته بما حاصله : إنّه قد ثبت بالقوانين العقلية وجود العقل المفارق ، المشتمل على جميع المعقولات ، المسمّى بالعقل الكل ، واللوح المحفوظ ، أما كونه كلاً ، فلذلك الإشتمال ، وأما كونه لوحاً ، فلأن كل صغير وكبير فيه مستطر ، وأما كونه محفوظاً ، فلكونه محفوظاً بالإسم الحافظ ، الحفيظ عن التغيّر ، والزوال ، والتبدّل ، والبوار ، كما هو شأن جميع المجردات النورية ، وهذا العقل هو نفس الأمر للموجودات الحقيقية العينية والذهنية مطلقاً .