فأورد على هذا الجواب بعض المتأخرين ـ نقضاً ـ بالواجب تعالى ، والعقول ، وذلك لأن نفس الأمر لو كان بذلك المعنى ، لكان نفس الأمر للموجودات الحقيقية التي دونه ، فيلزم أن لا يكون للواجب ـ وسائر العقول التي غير اللوح المحفوظ ـ وجود في نفس الأمر .
ثم هذا البعض من المتأخرين حاول التحقيق في معنى نفس الأمر ، وحاصله أنه عبارة عن حقيقة الأشياء بحسب ذواتها مع قطع النظر عن الاُمور الخارجة عنها .
وشارح قواعد التوحيد ، صائن الدين علي بن التركة ، اعترض عليه بأنّ هذا التحقيق إنّما أفاد زيادة إجمال في معنى نفس الأمر ، إلّا ان يحمل كلام هذا البعض على مذهب المحققين من أهل التوحيد ، أعني بهم أهل العرفان ، بأن أعيان الأشياء بحسب ذواتها ثابتة في ذاته الأحديّة سبحانه بلا شوب كثرة ، ولذلك يسمّونها بالأعيان الثابتة ، والفيلسوف يعبّر عنها بالماهيات .
والأعيان الثابتة في اصطلاح العارف من الممتنعات ، أي ممتنع تقرّرها وتمثّلها ـ في خارج ذات العالم بها ـ وإن كانت مظاهرها في خارج الذات موجودة بحسب اقتضائها ذلك ، فالأعيان الثابتة ما شمّت رائحة الوجود قط ، أي وجودها الخارجي ، ولا تشمّها أبداً . فالأعيان في ذاته الأحدية بوجوداتها الأحدية كالصور العلمية في أصقاع نفوسنا الناطقة .
واعلم انّ التمثّل معناه لا يختص بالحقائق التي في قوالب الأمثال والأشباح ، حتى يستلزم الكثرة والتمايز في ذاته الأحدية سبحانه وتعالى ، بل معناه يتناول الحقائق النورية ، المستكنة في ذات العاقل ، المجتمعة فيها جمعاً أحدياً ، والصور المثالية القائمة بغيرها في بعض مراتبه ، كالأشباح المجرّدة ، بالتجرّد البرزخي ، القائمة بالنفس الناطقة في مرتبة خيالها ، والخيال مظهر للإسم المصوّر ، ولذا جبلت على المحاكاة ، يقال : تمثّل كذا عند كذا ، إذا حضر منتصباً عنده بنفسه ، أو بمثاله (١٨) .
وللانتصاب في التعريف شأن لأنّ العلم الحقيقي هو انتصاب المعلوم لدى العالم ، ليس فيه اعوجاج ، ولذلك فسّر الشيخ الإدراك في الموضع المذكور من
____________________________
(١٨) كما أفاده المحقّق الطوسي في شرحه على سابع الثالث من الإشارات : ٧٦ ، الطبعة الاُولى .