والتشبيه الوجيه ، قياس زائري القبور والطائفين حولها بالطائفين حول الكعبة البيت الحرام وبين الصفا والمروة : «إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما» (٣٧) ، فالطائف حول البيت ، والساعي بين الصفا والمروة لم يعبد الكعبة وأحجارها ، ولا الصفا والمروة ومنارها ، وإنما يعبد الله سبحانه في تلك البقاع المقدسة ، وحول تلك الهياكل الشريفة التي شرفها الله ودعا عباده إلى عبادته فيها ، وهكذا زائر القبور.
هذا هو القياس الصحيح والميزان العدل ، أما القياس بالميزان الأول ففيه عين بل عيون ، لا بل هو خبط وجنون ، أليس من الجنون قياس من يعبد الله موحدا له بمن يعبد الأصنام مشركا لها مع الله جل شأنه؟!
وكشف النقاب عن محيا هذه الحقيقة الستيرة ، بحيث تبدو للناظرين ناصعة مستنيرة ، موقوف على بيان حقيقة العبادة وكنه معناها ، ولو على سبيل الايجاز حسب اقتضاء هذه العجالة التي جرى بها اللسان متدافعا تدافع الآتي من غير وقفة ولا أناة ، ولا مراجعة ولا مهل.
إن حقيقة العبادة ومصاص معناها ، وكنه روحها ومغزاها بعد كونها مأخوذة بحسب الاشتقاق من العبد والعبودية ، وليس العبد في الحقيقة وطباق نفس الأمر والواقع ما ملكته بالاغتنام أو الشراء أو غيرهما من الأسباب ، ولا السيد والمولى من تولى عليك بالغلبة والقهر ، أو المصانعة والخداع ، إنما السيد من أنعم عليك بنعمة الحياة ، وخلع عليك بعد العدم خلعة الوجود ، ورباك في بواطن الأصلاب وبطون الأرحام ستبرأ ، لا تراك سوى عينه ، ولا ترعاك سوى عنايته ، فذاك هو الرب والمالك والسيد حقيقة من غير تسامح في المعنى ، ولا تجوز في اللفظ ، وأنت ذلك العبد المملوك بحقيقة العبودية ، المربوب بنعمة الايجاد والتكوين ، والصنع والخلق ، وقد اقتضت تلك العبودية ، حسب النواميس العقلية ، والاعتبار والروية ، المعزى إليها بقوله عز شأنه : «وما خلقت الجن
__________________
(٣٧) البقرة : ١٥٨.