قال : ولأن الإعجاز في القرآن لو كان لمكان اختصاصه بالفصاحة والبلاغة لنزل القرآن من أوله إلى آخره في أعلى مراتب الفصاحة ، ولكان كله على نسق قوله تعالى : «وقيل يا أرض ابلعي مائك ويا سماء اقلعي وغيض الماء ...» (٢). وليس كله نزل على هذا النسق ، بل فيه ما هو في أعلى مراتب الفصاحة كما ذكرنا ، وما هو دونه كقوله تعالى : «تبت يدا أبي لهب وتب» و «إذا جاء نصر الله والفتح» و «قل يا أيها الكافرون».
ولأن الحال لا تخلو إما أن يقال لا رتبة في الفصاحة أعلى من رتبة القرآن ، كما ذهب إليه بعض أهل العدل ، فقالوا : لو كان في المقدور رتبة أعلى منها لأنزل الله سبحانه وتعالى عليها القرآن ، إذ لا يحسن أن يقتصر المكلف على أدنى البيانين مع قدرته على أعلاهما ، ولأن في أعلى البيانين وجه الدلالة على صدق الرسول أقوى.
وأما أن يقال : بأن القرآن وإن كان فصيحا بليغا ففي مقدور الله تعالى ما هو أعلى منه مرتبة في الفصاحة. فيقول المعترض فهلا أنزله من أوله إلى آخره على أعلى مراتب الفصاحة التي ليس وراءها منتهى.
قال : فهذا دليل على أن العمدة في الإعجاز ليس اختصاصه بالفصاحة والبلاغة لكن عجز ومنع أحدثهما الله تعالى فلم يشتغلوا بالمعارضة.
ومنها : إن الله تعالى أنزل القرآن وأودع فيه من العلوم ما علم أن حاجة الخلق تمس إليه إلى قيام الساعة ، لا جرم بذل العلماء في كل نوع منه مجهودهم ، واستفرغوا فيه جهدهم ووسعهم ، فأهل الكلام ـ خصوصا أهل العدل والتوحيد ـ استظهروا في ما ذهبوا إليه من العدل والتوحيد بالآيات الواردة فيه على صحة ما اعتقدوه ، وعلى [إبطال] ما ذهب إليه أهل الأهواء والبدع وفساد ما انتحلوا.
وأهل الفقه غاصوا في بحور النصوص فاستنبطوا منها المعاني وفرعوا الأحكام عليها.
__________________
(٢) سورة هود ١١ : ٤٤.