وأهل التأويل خاضوا في محكمها ومتشابهها ، ومجملها ومفصلها ، وناسخها ومنسوخها.
وأهل النحو بسطوا الكلام في تصانيفهم بسطا فكل أنفق على قدر ما رزق ، ثم لم يبلغنا عن واحد منهم أنه شمر ذيله وادرع ليله (٣) في بيان وجه الإعجاز على التفصيل سورة فسورة وآية فآية ، فابتدأ مثلا بفاتحة الكتاب فكشف عن وجه الإعجاز في ثلاث آيات منها ، ثم ترقى إلى ثلاث آيات أخر فكشف عنها أيضا وجه الإعجاز إلى أن ينتهي إلى آخرها ، مع شدة الحاجة إلى ذلك في كل زمان ، إذ حجة الله تعالى قائمة ، ومعجزته على وجه الدهر باقية.
وكذلك لم ينقل أنهم صنفوا في هذا الباب على هذا الوجه تصنيفا مع تهالهكم وولوعهم ، والعجب أنهم صنفوا في حلي الصحابة والتابعين وهيئاتهم ، فذكروا الطوال منهم والقصار ، ومن ابتلي منهم بالعمي والعور والعرج والعجمة والزمانة والشلل ، مع أن بالخلق مندوحة وغنية عن ذلك.
وهذا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (٤) صنف كتبا في الجد والهزل تكاد لا تعد ولا تحصى ، فصنف كتابا سماه «القعرة والشفرة» (٥) وآخر سماه «مفاخرة الشتاء والصيف» إلى أشباه هذا كثيرة ، صعد فيها وصوب ، وشرق وغرب ،
__________________
(٣) يقال : «شمر ذيلا وادرع ليلا» أي استعمل الحزم واتخذ الليل جملا. «الصحاح ـ درع ـ ٣ : ١٢٠٧».
(٤) عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء ، الليثي ، أبو عثمان ، الشهير بالجاحظ : كبير أئمة الأدب ، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة ، ولد سنة ١٦٣ ه ، وكان مشوه الخلقة ، وفلج في آخر عمره ، له تصانيف كثيرة ذكرت في مظان ترجمته ، قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه ، مات في البصرة سنة ٢٥٥ ه.
أنظر «تأريخ بغداد ١٢ : ٢١٢ ، وفيات الأعيان ٣ : ٤٧٠ / ٥٠٦ ، لسان الميزان ٤ : ٣٥٥ / ١٠٤٢ ، ميزان الاعتدال ٣ : ٣٤٧ / ٦٣٣٣ ، شذرات الذهب ٢ : ١٢١ ، الأعلام ٥ : ٧٤».
(٥) امرأة قعرة وقعيرة : بعيدة الشهوة ، عن اللحياني ، وقيل : هي التي تجد الغلمة في قعر فرجها ، وقيل : هي التي تريد المبالغة ، وقيل : سوء في الجماع «لسان العرب ـ قعر ـ ٥ : ١٠٩».
والشفرة والشفيرة من النساء : التي تجد شهوتها في شفرها فيجئ ماؤها سريعا ، وقيل : هي التي تقنع من النكاح بأيسره ، وهي نقيض القعيرة «لسان العرب ـ شفر ـ ٤ : ٤١٩».