صماخ قريته (١٣) ، وهكذا جحاجحة العرب ، لا تتخطاهم في رشق أصابه ، ولا تسقط لنازعهم في قوس نشابه (١٤).
وسألني الإجابة عن تلك السؤالات بنظم رسالة من أبلغ الرسالات ، تقع من السائل موقع الفرات (١٥) من الحران (١٦) ، وتنزل منه منزلة السداد من الحيران ، وكرر الطلب وردد ، وألح فيه وشدد ، وضيق علي الأمر وعوصه ، وقال : أنت الذي عينه الله وشخصه ، حتى لم أجد بدا من إجابته إلى ما أراد ، وإسعافه بما ابدأ فيه وأعاد ، وكان أمثل الأمرين أن الجم نفسي وأحجرها ، وأن ألقمها حجرها ، ولا أفغر بمنطق فما ، ولا أبل بجواب قلما ، وليس بين فكي لسان دافع ، وليس في ماضغي ضرس قاطع ، ولا بين جنبي نفس حركة نشيطة ، ولكن حردة (١٧) مستشيطة ، لما أنا مفجوع به من مفارقة كل أخ كان يسمع مني الكلمة الفذة فيضعها على رأسه ، ويعض عليها بأضراسه ، ويتقبلها بروحه ، ويلصقها بكبده ، ويجعلها طوقا في أعلى مقلده ، ويسكنها صميم فؤاده ، ويخطها على بياض ناضره بسواده ، لولا خيفة أن تسول له نفسه أنني أقللت الاكتراث بمراسلته ، وأخللت الاحتفال بمسألته ، وأن يقول بعض السمعة ـ ممن يحسب لساني لسان الشمعة ـ : أقسم بالله قسما ما وجد في ديسم (١٨) دسما ، فمن ثم ضرب عنه صفحا ، وطوى
__________________
(١٣) أفرغ : صب ، وصماخ ككتاب : الأذن ، وكعراب : الماء ، وقرية : الحوصلة. والمراد بها ما اشتهر به من البلاغة حتى صارت له كالعلم ، كما صار اسم حاتم للكرم ، والتفسير عليها دون القرية واحدة القرى ، ودون القربة سقاء الماء واللبن ، أي وإن صب أذن حافظته ، أو استنزف ماء قريحته ، كناية عن إجهاد نفسه في البيان ، وخنق فرسه في الميدان ، فهذه الأسئلة إن قرعت له سمعا يضيق بها ذرعا ، ويبقى خابطا في الشك والجدل ، لا حول له بها ولا حيل. «ه م».
(١٤) لا تسقط أي لا تخطئ ، ونزع القوس مدها ، ونشابه أي نبله ، أي هذه السؤالات كما يقصر عنها المذكورون من أئمة الأدب ، فإنها تصيب بلاغة سادات العرب ، ولا تخطئ نبل متقوسهم في إرب. «ه م».
(١٥) الفرات : أشد الماء عذوبة «لسان العرب ـ فرات ـ ٢ : ٦٥».
(١٦) الحران : العطشان «مجمع البحرين ـ حرر ـ ٣ : ٢٦٤».
(١٧) يقال : حرد الرجل حرودا إذا تحول عن قومه وانفرد. أنظر «النهاية ـ حرد ـ ١ : ٣٦٢».
(١٨) الديسم : بالفتح ولد الدب ، قال الجوهري : قلت لأبي الغوث : يقال إنه ولد الذئب من الكلبة ، فقال : ما هو إلا ولد الدب ، وقال في المحكم : إنه ولد الثعلب. وقال الجاحظ : إنه ولد الذئب من الكلبة ، وهو أغير اللون وغبرته ممتزجه بسواد ، وحكمه تحريم الأكل على كل تقدير. «الحيوان ١ : ٣٤٣».