عنه كشحا ، ولم يوله لمحه طرف ، ولم ينطق في شأنه بحرف.
أما العرب فقد صح أن لغتها أصح اللغات ، وأن بلاغتها أتم البلاغات ، وكل من جمح في عنان المناكرة ، وركب رأسه في تيه المكابرة ، ولم يرخ للتسليم والإذعان مشافره (١٩) فما أفسد حواسه ومشاعره! وهو ممن أذن بحرب منه لعقله الذي هو إمامه في المرشد ، ولتمييزه الذي هو هاديه إلى المقاصد.
إعلم يا من فطر على صلابة النبع ، وأمد بسلامة الطبع ، ووفق للمشي في جادة العدل والإنصاف ، وعصم من الوقوع في عاثور الجور والاعتساف ، فإن واضع هذا اللسان الأفصح العربي من بين وضاع الكلام ، إن لم يكن واضعه رافع السماء وواضع الأرض للأنام ، فقد أخذ حروف المعجم التي هي كالمادة والعنصر ، وبمنزلة الإكسير والجوهر ، فعجمها مبسوطات فرائد ، ودافها (٢٠) الواحد فالواحد ، وتقلقلت في يده قبل التأليف ، تقلقل الدنانير في أيدي الصياريف (٢١) ، حين تراهم ينفون زيفها وبهرجها (٢٢) ، ويصطفون إبريزها وزبرجها ، فتخير من بينها أطوعها مخارج ، وتنخل منها أوطأها
__________________
(١٩) الشفر : بالضم ، وقد يفتح ، حرف جفن العين الذي ينبت عليه الشعر «النهاية ـ شفر ـ ٢ : ٤٨٤».
(٢٠) داف الشئ ذوفا وأدافه : خلطه «لسان العرب ـ دوف ـ ٩ : ١٠٨».
(٢١) لم يرد جمع الصيرفي أي النقاد على هذه الصيغة إلا في الشعر قال ابن منظور : «الجمع صيارف وصيارفة ، والهاء للنسبة ، وقد جاء في الشعر الصيارف ، فأما قول الفرزدق :
تنفى يداها الحصى في كل هاجرة |
|
نفي الدراهيم تنقاد الصيارف |
فعلى الضرورة لما احتاج إلى تمام الوزن أشبع الحركة ضرورة حتى صارت حرفا».
وقال الفيروزآبادي : «وقد جاء في الشعر صياريف» ولعل ما أورده الزمخشري تبعا لاقتضاء سجع العبارة ظاهرا ، أنظر «لسان العرب ٩ : ١٩٠ ، القاموس المحيط ٣ : ١٦٢ ، مادة صرف».
(٢٢) البهرج : الباطل ، واللفظة معربة. وقيل كلمة هندية أصلها نبهله ، وهو الردئ ، فنقلت إلى الفارسية ، فقيل نبهره ، ثم عربت فقيل : بهرج. «النهاية ـ بهرج ـ ١ : ١٦٦».