ابن فارس لم يكن يقف عند حد ، وهمته العالية أكبر من أن تقنع بالقليل وترضى باليسير فرحل إلى أصبهان وزنجان وميانج طلبا للعلم ، فتتلمذ على كبار علمائها أمثال أبي القاسم سليمان الطبراني ، وأبي بكر أحمد بن الحسن الخطيب راوية ثعلب ، وأحمد بن طاهرين بن النجم ، ولم يكتف بذلك حتى رحل إلى بغداد للاستفادة من عالما الكبير في ذلك الوقت محمد بن عبد الله الدوري.
من هنا كان ابن فارس جم المعارف ، غزير العلم ، صقلت الأسفار الطويلة شخصيته العلمية حتى غدا إماما في اللغة ، مبرزا في علوم القرآن والحديث ، فذاع صيته في كل مكان ، عالما تشد إليه الرحال ، طلبا لمعارفه ، وتعطشا للاستزادة منه.
مكانته العلمية :
ليس من السهل في هذه العجالة أن نتحدث عن مكانة ابن فارس العلمية ، تلك الشخصية البارزة التي قدمت للتراث الإسلامي نتاجا متميزا في المكتبة العربية ، فمن خلال مصنفاته وآثاره ترى اللغوي الأديب الذي تطرب النفوس لكلامه ، وترقص القلوب لبيانه ، فهو كما قيل : «إذا ذكرت اللغة فهو صاحب مجملها ، لا بل صاحبها المجمل [لها]» (١).
وترى المفسر والمحدث الذي تبحر في علوم القرآن والحديث ، فأجاد وأفاد.
وتشاهد المتكلم الفقيه الذي " إذا وجد فقيها أو متكلما أو نحويا كان يأمر أصحابه بسؤالهم إياه ، ويناظره في مسائل من جنس العلم الذي يتعاطاه ، فإن وجده بارعا جدلا جره في المجادلة إلى اللغة ، فيغلبه بها " (٢) فهو بذلك كان " من أعيان العلم وأفراد الدهر ، وهو بالجبل كابن بالعراق ، يجمع إتقان العلماء
__________________
(١) إنباه الرواة ١ : ١٢٨ عن أبي الحسن الباخرزي.
(٢) إنباه الرواة ١ : ١٢٩.