واعلم أنك إذا تأملت قدر السعادة المؤبدة التي لا نهاية لها التي تحصل ثمرتها من حين الشروع في تزكية النفس وتخلص من حين فراقها البدن في البرزخ إلى أبد الآبدين وأن سبب حصولها وكسبها في هذا العمر الذي غاية الطمع في زيادته والتمني لطوله لا يبلغ مائة سنة ، لا يصفو منها للعمل ـ وإن اجتهدت ـ إلا قليل للاضطرار إلى صرف شطره في النوم والراحة وجانب كثير من الشطر الآخر في ضرورات البقاء الإنساني ، والفاضل من ذلك ـ على تقدير ضبطه التام وسلامته عن الآفات وخلوصه عن شوائب النقص ومعارضة المعاصي ـ هو ثمن هذه السعادة الأبدية التي لا نهاية لها باتفاق أهل الملل ، ومرجعها إلى بقاء بلا فناء ولذة بلا عناء وسرور بلا كدر وغنى بلا فقر وكمال بلا نقصان وعز بلا ذل ، وبالجملة كلن ما يتصور أن يكون مطلوب طالب ومرغوب راغب على وجه لا يتصرم بتصرم الأحقاب (١٢) ولا يفنى بفناء الآباد.
بل لو قدرنا أن الدنيا من عنان السماء إلى تخوم الأرض مملوءة بالذر وقدرنا طائرا يأكل منها في كل مائة ألف سنة وأضعاف ذلك حبة لفنيت الذر ولم ينقص من أبد الآباد شئ ، فجدير (١٣) أن تغتنم تحصيل ذلك وتشمر عن ساق الحد فيه في أيام هذه المهلة اليسيرة التي لا يمكن حصوله في غيرها ، و [في] كل نفس من الأنفاس يمكن تحصيل كنز من كنوزه. فما أجدر هذا حثا على طلبه وأقبح الفتور عنه بعد اعتقاد وجوده الذي لا يسع مكلف الغفلة عن اعتماده ، ولا يتم الإيمان بالله تعالى بدون اعتقاده ، لأنه مما قد تضافرت به الآيات واتفقت عليه الأنبياء والرسل وأجمعت عليه الأمم على اختلاف أديانها وتباين مذاهبها ، وقد رأيت ورأينا من جد أهل الدنيا وتعبهم وتحملهم للمكاره وتركهم للملاذ في الحال
__________________
(١٢) قال في «المصباح المنير» ـ ص ١٧٣ ، مادة «حقب» ـ : «الحقب : الدهر ، والجمع أحقاب ، مثل قفل وأقفال ... ويقال : الحقب : ثمانون عاما».
(١٣) الظاهر أن كلمة " فجدير ... " جواب لقوله : «إذا مر قبل عدة أسطر.