فإذا تنازع الفقهاء في مسألة ما وطبقوا عليها واحدة من هذه الأصول والقواعد فليس معنى ذلك أنهم عملوا بالاستصحاب ، وإنما رجعوا لتطبيق القاعدة على جزئياتها ومصاديقها.
وتعبير النحاة هنا ب (الأصل) من هذا القبيل.
ذلك لأن ما يسميه النحاة ب (الأصل) مثل : (الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة) و (الأصل في الخبر أن يكون نكرة) و (الأصل في الفعل أن يكون ثلاثيا صحيحا مجردا ... إلى آخره) و (الأصل في الأسماء الإعراب) و (الأصل في الأفعال البناء) وأمثال ذلك من أصول ذهنية مجردة ، اخترعها النحاة دون أن تخطر ببال المتكلم العربي ، أقول : هذه الأصول ما هي في الواقع إلا (مثل عليا) افترضها النحاة للكلمة والجملة العربية لتسهل عليهم عملية التصنيف والتبويب فيما بعد ، فما كان جاريا على هذا (الأصل المثالي) جعلوه في (قاعدة) وما خرج عن هذا الأصل ، فإن كان غير مطرد اعتبروه (شاذا) لا يقاس عليه ، وإن كان مطردا ، جعلوا له (قاعدة) فرعية أخرى ، فالفعل ( ضرب) جار على (الأصل) والفعل (قال) معدول به عن هذا الأصل ، ولكنهم أخضعوه لأصل آخر ، مفترض أيضا ، فقالوا : (الأصل في قال : قول ، والأصل في باع : بيع) ليستنتجوا من ذلك قاعدة تصريفية مطردة يصرح القياس عليها : (إذا تحركت الواو ـ أو الياء ـ وانفتح ما قبلها قلبت ألفا) كما استنتجوا قاعدة : (إذا وقعت الواو أو الياء متطرفة ، إثر ألف زائدة ، قلبت همزة) مثل : كساء وبناء ، فإن أصلهما (كساو) و (بناي).
وحين وجدوا المبتدأ في قوله تعالى : (وجوه يومئذ ناضرة) معدولا به عن الأصل المفترض : (الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة) جعلوه ضمن (أصل) فرعي آخر : (حصول الفائدة للمخاطب) :
ولا يجوز الابتدا بالنكرة |
|
(ما لم تفد) كعند زيد نمرة |
وهكذا ... فليس مرادهم من هذه (الأصول) المفترضة إذن غير بناء نظريتهم النحوية الكاملة ، وتأسيس القواعد والضوابط التي لا تشذ عنها بنية