ولكن هنا مسألتان :
الأولى : إن الذين سينتفعون من ذلك إنما هم الخاصة من أهل العلم ذوي الباع الطويل في علوم الرواية والدراية وأهل التخصص في هذا الفن ، وهؤلاء أندر من الكبريت الأحمر في كل عصر ومصر ، أما السواد الأعظم من الناس بما فيهم الكثرة الغالبة من أهل المعرفة والاطلاع وحتى بعض المتخصصين في التاريخ فهم بعيدون عن معرفة ذلك والتقحم فيه ، وإنما يقرأون تاريخا مسطورا ومنظما ، ومما يزيد في تقبلهم لكل ما فيه واطمئنانهم إليه هو هذه الأسانيد نفيها!
وهنا انقلب دور هذه الأسانيد لتأتي بالنتيجة المعكوسة تماما عند الغالبية العظمى، بل عند عامة الأئمة وسائر طبقات المتعلمين من أبنائها على مدى العصور وتعاقب الأجيال!
هذه هي الحقيقة الواقعة .. وهذه هي العاقبة الخطيرة لتلك الطريقة من الحذر ..
وسوف تتضح لنا خطورة هذه النتيجة أكثر حين نلتفت إلى أنه ليس المهم في كتابه التاريخ تبرئة الكاتب المصنف أو إلقاء اللوم عليه ، إنما المهم فيه والمطلوب منه هو ما سيتركه من أثر في ثقافة الأجيال ورؤيتها لحقائق التاريخ وأحداثه الهامة.
الثانية : إن كبار المؤرخين الذين أخذوا عن الطبري ـ وهم عادة من خاصة أهل العلم والتحقيق ـ قد وقعوا في ذلك المحذور في كثير مما أخذوه عنه ، حين اعتمدوا أشد الروايات ضعفا وأكثرها تهافتا ومناقضة للواقع.
وهذه حقيقة لائحة للناظر في تاريخ ابن الأثير (الكامل في التاريخ) ، وتاريخ ابن كثير (البداية والنهاية) ، وتاريخ ابن خلدون ، بل حتى تاريخ المسعودي (مروج الذهب) الذي أثنى على تاريخ الطبري أشد الثناء ولم يشر إلى رواياته عن المتروكين والضعفاء.