تصدير
عنى ابن سينا بالدراسات السيكلوجية عناية قل أن تجد لها نظيرا فى التاريخ القديم والمتوسط ، فألف فيها ولما يبلغ العشرين ، واستمر يتعهدها طوال حياته. كتب فيها ملخصا ، وخلف عدة رسائل لها وزنها وقيمتها. وكتب فيها محللا ومفصلا ، شارحا وموضحا ، ومن أوسع ما وضع فى هذا الباب «كتاب النفس» الذي نقدم له اليوم. وألحقها بالدراسات التجريبية ، وعد «كتاب النفس جزءا من طبيعيات «الشفاء» وتلك ناحية لها شأنها فى نهضة علم النفس حديثا. وربطها بالطب ، فمهد بها لكتابه الطبى الكبير المشهور ، «القانون» ، وقدم له بمقدمة عرض فيها «لقوى النفس على طريقة الأطباء». وهذا ملحظ له مغزاه ، وإن لم تسعفه الأجهزة والآلات للتعمق فيه ، وقد أضحى الطب موردا هاما من موارد علم النفس المعاصر.
لم يكن غريبا أن يعنى ابن سينا بدراسة النفس ، فقد سبقه إلى ذلك مدارس ومفكرون إسلاميون مختلفون ، شغل بها المتكلمون والمتصوفة منذ عهد مبكر ، وانضم إليهم الأطباء والفلاسفة. وحاولوا أن يقفوا على كل ما دار حولها فى الفكر القديم ، شرقيا كان أم غربيا ، وأخذوا عن الهند والفرس ، كما أخذوا عن اليونان. ويوم أن توفرت لديهم هذه المصادر بدءوا يبحثون بأنفسهم ، ويكتبون على طريقتهم. وظهرت فى القرنين الثالث والرابع الهجرى دراسات سيكلوجية على أيدى الكندى (٨٦٥ م) والفارابى (٩٥٠) بين الفلاسفة ، وعلى أيدى قسطا بن لوقا (٩١٢ م) وأبى بكر الرازى (٩٢٥ م) بين الأطباء ، وقد مهد ذلك كله لما اضطلع به ابن سينا (١٠٣٧ م) فى القرن الخامس. وفى مقدمة الأصول التي أفاد منها هؤلاء الباحثون ما ترجم إلى العربية من علم النفس الأرسطي.