قلت : إنّ القرآن والقلم بعد هذه الفواتح محلوف بهما ، فلو زعمت ذلك لجمعت بين قسمين على مقسم واحد وقد استكرهوا ذلك. قال الخليل في قوله عزّ وجلّ : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) : الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى ، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو ، والأولى بمنزلة الباء والتاء. قال سيبويه : قلت للخليل : فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى؟ فقال : إنما أقسم بهذه الأشياء على شيء ، ولو كان انقضى قسمه بالأوّل على شيء لجاز أن يستعمل كلاما آخر ، فيكون كقولك بالله لأفعلنّ ، بالله لأخرجنّ اليوم. ولا يقوى أن تقول : وحقك وحق زيد لأفعلنّ. والواو الأخيرة واو قسم لا يجوز إلا مستكرها قال : وتقول وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ ؛ فثم هاهنا بمنزلة الواو. هذا ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى أن تجعل الواو للعطف ؛ لمخالفة الثاني الأول في الإعراب. فان قلت : فقدّرها مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها ، فقد جاء عنهم : الله لأفعلن مجرورا ، ونظيره قولهم : لاه أبوك ؛ غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة ، واجعل الواو للعطف حتى يستتب لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه. قلت : هذا لا يبعد عن الصواب ، ويعضده ما رووا عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال : أقسم الله بهذه الحروف (١).
فإن قلت : فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر (٢)؟ قلت : وجهها ما ذكرت من التحريك لالتقاء الساكنين ، والذي يبسط من عذر المحرّك : أن الوقف لما استمرّ بهذه الأسامى ، شاكلت لذلك ما اجتمع في آخره ساكنان من المبنيات ، فعوملت تارة معاملة «الآن» وأخرى معاملة «هؤلاء». فإن قلت : هل تسوّغ لي في المحكية مثل ما سوّغت لي في
__________________
ـ وتهيئه للأكل. وأمانة الله رفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، أى : قسمي ؛ أو نصب بفعل القسم المقدر بعد حذف الجار ، أى : أقسم بأمانة الله ؛ أو جر بواو القسم مقدرة ، لكن البصريون خصوا هذا بلفظ الجلالة. يقول : إذا كان الخبز مأدوما باللحم وممزوجا به ، فذلك هو الثريد دون ما عداه وحق أمانة الله.
(١) موقوف رواه البيهقي في الأسماء والصفات ، من طريق معاوية بن صالح ، عن على بن طلحة عنه بلفظ : الحروف المقطعة في أوائل السور كلها أقسام أقسم الله بها. ورواه ابن مردويه من هذا الوجه في تفسير طه. قال : طه وأشباهها قسم أقسم الله بها. وهي من أسماء الله تعالى.
(٢) قال محمود رحمه الله : «فان قلت فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر ... الخ»؟ قال أحمد رحمه الله : وهذا تحقق لك مخالفته لما نقلته من نص سيبويه من أنها غير متمكنة. ويدلك على أن فتحتها التي قال قبل إنها لالتقاء الساكنين فتحة بناء ، أنه إنما أراد السكون العارض في الحكاية لا سكون البناء وهو مخالف لنص سيبويه كما نبهت عليه أيضا.