ما ابتلى الله به أهل أيلة من ترك الصيد مع إتيان الحيتان شرَّعا ، بل هو أشد منه وأصعب. وإنما عرف ذلك طالوت بإخبار من النبي. وإن كان نبيا ـ كما يروى عن بعضهم ـ فبالوحى. وقرئ (بنهر) بالسكون. فإن قلت : ممَّ استثنى قوله (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ)؟ قلت : من قوله : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) (١) والجملة الثانية في حكم المتأخرة ، إلا أنها قدّمت للعناية كما قدم (وَالصَّابِئُونَ) في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) ومعناه : الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع ، والدليل عليه قوله (فَشَرِبُوا مِنْهُ) أى فكرعوا فيه (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وقرئ (غرفة) بالفتح بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف. وقرأ أبىّ والأعمش : إلا قليل ، بالرفع. وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً ، وهو باب جليل من علم العربية. فلما كان معنى (فَشَرِبُوا مِنْهُ) في معنى فلم يطيعوه ، حمل عليه ، كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم. ونحوه قول الفرزدق :
............... لمْ يَدَعْ |
|
مِنَ الْمَالِ إلّا مُسْحَتٌ أوْ مُجَلَّفُ (٢) |
كأنه قال : لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف. وقيل : لم يبق مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر
__________________
(١) قال محمود رحمه الله : «مستثنى من قوله : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) ... الخ» : قال أحمد رحمه الله : وفي هذه الآية تقوية لمن ذهب إلى أن الاستثناء المتعقب للجمل لا يتعين عوده إلى الأخيرة لاحتمال عوده إلى ما قبلها. ورد على من منع ذلك محتجا بامتناع الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بأجنبى من الاستثناء. ولذلك حقق عوده إلى الأخيرة ، وتوقف في انعطافه على ما تقدمها ، فيجوز عنده أن يعود على الجميع مع الأخيرة. وأما عوده على ما قبل الأخيرة دونها فمتعذر عند هذا القائل فلم يصف في العود إلى الأخيرة لهذه الشبهة. وقد بين القاضي أبو بكر صلاحية عوده إلى ما قبل الأخيرة دونها ردا على هذا القائل ، واستشهد بقوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) ووجه استشهاده : أن المعنى يأبى انعطاف هذا الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ويعين عوده إلى ما قبلها وسيأتى بيان ذلك عند الكلام على الآية.
(٢) إليك أمير المؤمنين رمت بنا |
|
شعوب النوى والهوجل المتعسف |
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع |
|
من المال إلا مسحت أو مجلف |
للفرزدق. يقول : يا أمير المؤمنين ، قذفتنا إليك طرق البعد ، لكن الرامي به في الحقيقة دواعي النفس ، فاسناد الرمي إلى الشعوب مجاز عقلى : أو شبه الطرق بمن يصح منه الرمي على سبيل المكنية ، والمراد بالرمي البعث مجازاً ، والهوجل : الطويل الأحمق ، أى البعير المتعسف الحائد عن سنن الطريق ، أو الطريق الطويل المعوج ، فهو عطف خاص على عام. وشبه الزمان المجدب بذي ناب على طريق المكنية ، وإسناد العض له تخييل. والمسحت : البقية القليلة من الشيء ، يقال سحته وأسحته إذا استأصله ، والأولى لغة الحجاز ، والثانية لغة نجد. والمجلف : المنقرض من جوانبه ، يقال جلفه كنصره إذا قشره أو قطعه. والجائفة أبلغ من الجالفة ، وقيل : المسحت والمجلف ، الذي أخذ منه ماله أو هلك منه ، وكان الواجب نصب الاستثناء ؛ لأنه لا وجه للرفع ، لكن روعي فيه معنى النفي فرفع ، أى لم يبق من المال إلا هما. وروى : إلا مسحتا أو مجلف ، فرفع الثاني عطفا على المعنى. روى أنه سئل : لم خالفت بينهما فقال : قلت ذلك لتشقى به النحويون. ونداء عبد الملك بن مروان في الموضعين للتعظيم والاستعطاف.