فإن قلت : لم قدّرت المحذوف متأخراً؟ (١) قلت : لأنّ الأهم من الفعل والمتعلق به هو المتعلق به ؛ لأنهم كانوا يبدءون بأسماء آلهتهم فيقولون : باسم اللات ، باسم العزى ، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عزّ وجلّ بالابتداء ، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما فعل في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، حيث صرح بتقديم الاسم إرادة للاختصاص. والدليل عليه قوله : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها). فإن قلت : فقد قال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، فقدّم الفعل. قلت : هناك تقديم الفعل أوقع لأنها أوّل سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم.
فإن قلت : ما معنى تعلق اسم الله بالقراءة؟ (٢) قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يتعلق بها تعلق القلم بالكتبة في قولك : كتبت بالقلم ، على معنى أنّ المؤمن لما اعتقد أنّ فعله لا يجيء معتدا به في الشرع واقعا على السنة حتى يصدر بذكر اسم الله لقوله عليه الصلاة والسلام : «كل أمر ذى بال لم يبدأ فيه
__________________
ـ للوزن ، على أن إجراء الوصل مجرى الوقف كثير في النظم كما صرحوا به وجعلوا هذا منه ، وكأن هناك قول مقدر مثل «جئناك» فحكى إعراب ضمير الفاعل فيه حتى يظهر استشهاد يونس به في الحكاية. فقالوا : نحن الجن. وكان الظاهر : فقلت عموا. ولكن أتى به مستأنفاً جواب سؤال مقدر تقديره : فما ذا قلت لهم؟ فقال : قلت عموا ، أى تنعموا في وقت الظلام ، وعطف قوله «فقلت» بالفاء دلالة على التعقيب ، وأما رواية «عموا صباحا» فمن قصيدة أخرى تعزى إلى خديج بن سنان الغساني ومنها :
نزلت بشعب وادى الجن لما |
|
رأيت الليل قد نشر الجناحا |
وشبه الليل بطائر ، فأثبت له ما للطائر ، أو شبه الظلمة بالجناح. وقوله «إلى الطعام» أى هلموا وأقبلوا إليه. دل المقام على ذلك ، فقال زعيم منهم ، أى سيد وشريف : نحن نحسد الانس في الطعام أو على الطعام ، فهو نصب على نزع الخافض ، ويجوز أنه بدل ، ويجيء «حسد» متعديا لاثنين ، والطعاما : مفعوله الثاني. وقال الجوهري : الأنس هنا بالتحريك : لغة في الانس ، ويجوز قراءته «الانس» على اللغة المشهورة. لقد فضلتم عنا في الأكل حال كونكم فينا أى فيما بيننا ، ولكن ذاك يلحقكم سقاما في العاقبة. وهذا كله من أكاذيب العرب.
(١) قال محمود : «لم قدرت المحذوف متأخراً .. الخ» قال أحمد رحمه الله : لأنك لو ابتدأت بالفعل في التقدير لما كان الاسم مبتدأ به فيفوت الغرض من التبرك باسم الله تعالى أول نطقك. وأما إفادة التقديم الاختصاص ففيه نظر سيأتى إن شاء الله تعالى.
(٢) قال محمود : «فان قلت ما معنى تعلق اسم الله تعالى بالقراءة ... الخ»؟ قال أحمد رحمه الله : وفي قوله «إن اسم الله هو الذي صير فعله معتبراً شرعا» حيد عن الحق المعتقد لأهل السنة في قاعدتين : إحداهما أن الاسم هو المسمى ، والأخرى أن فعل العبد موجود بقدرة الله تعالى لا غير ؛ فعلى هذا تكون الاستعانة باسم الله معناها اعتراف العبد في أول فعله بأنه جار على يديه ، وهو محل له لا غير ؛ وأما وجود الفعل فيه فبالله تعالى أى بقدرته تسليما لله في أول كل فعل ؛ والزمخشري رحمه الله لا يستطيع هذا التحقيق لاتباعه الهوى في مخالفة القاعدتين المذكورتين ، فيعتقد أن اسم الله تعالى الذي هو التسمية معتبر في شرعية الفعل لا في وجوده ؛ إذ وجوده على زعمه بقدرة العبد ، فعلى ذلك بنى كلامه. أقول : دعواه أن عند أهل السنة الاسم غير المسمى ممنوعة ، وتحقيقه قد ذكر في غير هذا الكتاب.