أُحْيِي وَأُمِيتُ) يريد أعفو عن القتل (١) وأقتل. وكان الاعتراض عتيداً ولكن إبراهيم لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه ، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته أول شيء. وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة. وقرئ (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أى فغلب إبراهيم الكافر. وقرأ أبو حيوة : فبهت ، بوزن قرب. وقيل : كانت هذه المحاجة حين كسر الأصنام وسجنه نمروذ ، ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال له : من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال : ربى الذي يحيى ويميت. (أَوْ كَالَّذِي) معناه : أو أرأيت مثل الذي مرَّ (٢) فحذف لدلالة (أَلَمْ تَرَ) عليه ؛ لأنّ كلتيهما كلمة تعجيب. ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ ، كأنه قيل : أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية. والمارّ كان كافراً (٣) بالبعث ، وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك
__________________
ـ إلى حجة». قال أحمد : وقد التزم غير واحد من العلماء أن هذا الذي صدر من الخليل عليه الصلاة والسلام ليس بانتقال من الحجة ، ولكن من المثال. وأما الحجة فهي استدلاله على ألوهية الله تعالى بتعلق قدرته بما لا يجوز تعلق قدرة الحادث به ، ثم هذا له أمثلة منها الأحياء والاماتة ، ومنها : الإتيان بالشمس من المشرق. والعدول بعد قيام الحجة وتمهيد القاعدة من مثال إلى مثال ليس ببدع عند أهل الجدل والله أعلم.
١) قوله «يريد أعفو عن القتل» في الصحاح عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه. وفيه : أعفنى من الخروج معك اى دعني منه. (ع)
(٢) قال محمود : «معناه أو أرأيت مثل الذي مر ... الخ» قال أحمد : ومثل هذا النظم يحذف منه فعل الرؤية كثيراً ، كقوله :
قال لها كلا؟؟؟ أسرعى |
|
كاليوم مطلوباً ولا طالبا |
يريد لم أر كاليوم فحذف الفعل وحرف النفي. والظاهر حمل الآية على الوجه الأول لوجود نظيره ، والله أعلم.
(٣) (عاد كلامه) قال والمار كان كافراً بالبعث وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد. وقيل : كان مؤمنا وهو عزير أو الخضر ، وأراد أن يعاين الأحياء كما طلبه إبراهيم. وقوله يوما ، بناه على الظن. روى أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس فقال ـ قيل النظر إلى الشمس ـ يوما ، ثم التفت فرأى بقية منها فقال : أو بعض يوم ، انتهى كلامه. قال أحمد : أما استدلال الزمخشري على أن المار كان كافراً بانتظامه مع نمروذ في سلك واحد ، فمعارض بأنه نظمت قصته مع قصة إبراهيم عليه السلام في نسق واحد ، فليس الاستدلال على كفره باقتران قصته مع قصة نمروذ ، أولى من الاستدلال على إيمانه بانتظامها أيضاً مع قصة إبراهيم ، إلا أن يقول إن قصة هذا المار معطوفة على قصة نمروذ عطف تشريك في الفعل ، منطوقا به في الأولى ومحذوفا من الثانية ، مدلولا عليه بذكره أولا ، ولا كذلك عطف قصة إبراهيم فإنها مصدرة بالواو التي لا تدخل في كثير من أحوالها للتشريك ، ولكن لتحسين النظم حتى تتوسط بين الجمل التي يعلم تعاطفها لذلك الغرض ، ولا كذلك عطفها في قصة نمروذ ، فانه بأو التي لا تستعمل إلا مشركة ، إذ عطف التحسين اللفظي خاص بالواو فنقول : إذا انتهى الترجيح إلى هذا التدقيق فهو معارض بما بين قصة المار وقصة إبراهيم من التناسب المعنوي ، لأن طلبتهما واحدة ، إذ المار سأل معاينة الأحياء ، وكذلك طلبة إبراهيم ثم التناسب المعنوي أرجح من التعلق بأمور لفظية ترد إلى أنحاء مختلفة ويؤيد القول بأن المار كان مؤمنا تحريه في قوله تعالى : (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فان ظاهره الاحتراز من التحريف في القول حتى لا يعبر عن جل اليوم باليوم حذراً من إبهام طلبته لجملة اليوم. ومثل هذا التحري لا يصدر عن معطل ، والله أعلم.
ولا يقال إنما صدر منه هذا التحري بعد أن حيي وآمن ، لأنا نقول إنما آمن على القول بكفره بعد ظهور الآيات ، يدل عليه قوله تعالى : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وأما التحري المذكور فكان أول القصة قبل