قلت : ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين. و (بَلى) إيجاب لما بعد النفي ، معناه بلى آمنت (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ليزيد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين ، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري ، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك. فإن قلت : بم تعلقت اللام في : (لِيَطْمَئِنَّ)؟ قلت : بمحذوف تقديره : ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) قيل طاوسا وديكا وغرابا وحمامة (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضم الصاد وكسرها بمعنى فأملهنّ واضممهنّ إليك قال :
وَلَكِنَّ أطْرَافَ الرِّماحِ تَصُورُهَا (١)
وقال :
وَفَرْعٍ يَصيرُ الْجِيدَ وَحْفٍ كَأنَّهُ |
|
عَلَى اللَّيْتِ قِنْوَانُ الْكُرُومِ الدَّوَالِحِ (٢) |
__________________
ـ أرنى كيف محمل هذا ، فلما كانت هذه الصيغة قد يعرض لها هذا الاستعمال الذي أحاط علم الله تعالى بأن ابراهيم مبرأ منه ، أراد بقوله : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أن ينطق إبراهيم بقوله : بلى آمنت ، ليدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى : ليكون إيمانه مخلصاً نص عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهما لا يلحقه فيه شك. فان قلت : قد تبين لي وجه الربط بين الكلام على التقدير المبين ، فما موقع قول إبراهيم (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) وذلك يشعر ظاهراً بأنه كان عند السؤال فاقداً للطمأنينة؟ قلت : معناه ولكن ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الحياة ، لأنى إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة ، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد وجاءت الآية مطابقة لسؤاله ، لأنه شاهد صورة حياة الموتى ، تقديره : الذي يحيى ويميت ، فهذا أحسن ما يجرى لي في تفسير هذه الآية وربك الفتاح العليم. وأما قول الزمخشري : «إن علم الاستدلال يتطرق إليه التشكيك بخلاف العلم الضروري» فكلام لم يصدر عن رأى منور ولا فكر محرر ، وذلك أن العلم الموقوف عن سبب لا يتصور فيه تشكيك ، ما دام سببه مذكوراً في نفس العالم ، وإنما الذي يقبل التشكيك قبولا مطلقا هو الاعتقاد وإن كان صحيحاً وسببه باق في الذكر ، وبهذا ينحط الاعتقاد الصحيح عن ذروة العلم ، ولكن للقدماء من القدرية خبط طويل في تميز العلم عن الاعتقاد ، حتى غالى أبو هاشم فقال العلم بالشيء والجهل به مثلان. وهذا على الحقيقة جهل حتى لحقيقة الجهل ، والزمخشري في قواعد العقائد يقفو آثار هذا القائل أية سلك فلعله من ثم طرق إلى العلم النظري الشك حسب تطرقه إلى الاعتقاد الذي يكون مرة جهلا ومرة مطابقا ، والله الموفق.
(١) وما صيد الأعناق فيهم جبلة |
|
ولكن أطراف الرماح تصورها |
الصير ـ بالتحريك ـ اعوجاج العنق. ويقال صاره يصوره ويصيره ، بمعنى أماله وقطعه. أى ليس ميل الأعناق طبيعة فيهم ولكن أطراف الرماح لكثرتها فوق رؤسهم تميل أعناقهم. وإسناد الامالة للأطراف مجاز عقلى من الاسناد للسبب. ويجوز أن «فيهم» حال من الصيد لا من جبلة ، أى حال كونه فيهم.
(٢) صاره يصيره ويصوره ، إذا أماله أو قطعه : وروى : يزين الجيد. والجيد : العنق : والوحف : الكثيف الأسود. والليت : صفحة العنق. والدوالح : المثقلات بالحمل ، يصف شعر محبوبته بأنه يميل عنقها لثقله عليه ، وشبه غدائره على جانب جيدها بعناقيد الكروم المثقلات بالحمل.