ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)
فإن قلت : لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟ (١) قلت : وقعت الإشارة إلى الم بعد ما سبق التكلم به وتقضى ، والمتقضى في حكم المتباعد ، وهذا في كل كلام. يحدّث الرجل بحديث ثم يقول : وذلك ما لا شك فيه. ويحسب الحاسب ثم يقول : فذلك كذا وكذا. وقال الله تعالى : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ). وقال : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ، ولأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه ، وقع في حد البعد ، كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئا : احتفظ بذلك. وقيل معناه : ذلك الكتاب الذي وعدوا به. فإن قلت : لم ذكر اسم الإشارة ـ والمشار إليه مؤنث وهو السورة ـ؟ (٢) قلت : لا أخلو من أن أجعل الكتاب خبره أو صفته. فإن جعلته خبره ، كان ذلك في معناه ومسماه مسماه ، فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير ، كما أجرى عليه في التأنيث في قولهم : من كانت أمّك. وإن جعلته صفته ، فإنما أشير به إلى الكتاب صريحاً ؛ لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له. تقول : هند ذلك الإنسان ، أو ذلك الشخص فعل كذا. وقال الذبياني :
نُبِّئْتُ نُعْمَى على الهِجْرانِ عاتِبةً |
|
سُقْيَا ورُعْيَا لِذَاكَ العاتِبِ الزَّارِى (٣) |
__________________
(١) قال محمود رحمه الله : «إن قلت لم صحت الاشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد ... الخ»؟ قال أحمد رحمه الله: ولأن البعد هنا باعتبار علو المنزلة ، وبعد مرتبة المشار إليه من مرتبة كل كتاب سواه كما يقطعون بثم للاشعار بتراخي المراتب ، وقد يكون المعطوف سابقا في الوجود على المعطوف عليه وسيأتى أمثاله.
(٢) قال محمود رحمه الله : «فان قلت : لم ذكر اسم الاشارة ... الخ»؟ قال أحمد رحمه الله : ولو مثل ذلك بقول القائل : حصان كانت دابتك ، لكان أقوم وأسلم من الفرق بما في لفظ «من» من الإبهام الصالح للمذكور والمؤنث. ومثل هذا قوله تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) فيمن وصل الكلام فجعل (هُمُ الْعَدُوُّ) جملة في موضع المفعول الثاني للحسبان ، وعدل عن أن يقول : هي العدو ، نظراً إلى المفعول الثاني الذي هو في المعنى خبر عن الصيحة ، فذكر وجمع لما كان المبتدأ هو الخبر في المعنى. وقد وجه الشيخ أبو عمرو قول الزمخشري ، وتسمى الجملة بالتاء والياء عقيب قوله : والكلام هو المركب من كلمتين ـ بهذا التوجيه
(٣) عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار |
|
ما ذا يحيون من نؤى وأحجار |
لقد أرانى ونعمى لاهيين بها |
|
والدهر والعيش لم يهمم بإمرار |
نبئت نعمى على الهجران عاتبة |
|
سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري |
للنابغة الذبياني. والعوج : عطف رأس البعير بالزمام. ونعم : اسم محبوبته. والدمنة : ما تلبد من البعر والرماد والقمامة ، والمراد مطلق الآثار. والنؤى : الحاجز حول الخباء لئلا يدخله الماء. والمراد بالأحجار : الأثافى التي تنصب عليها القدور ، أو بقية الجدران ، وهم بالشيء : أراده ، وأصله الإدغام ، وفكه هنا لغة ، أى لم يهم كل منهما.