أنهم قالوا : لو اشترى الرجل ما لا يساوى إلا درهما بدرهمين جاز ، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين؟ قلت : جيء به على طريق المبالغة ، وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانونا في الحل حتى شبهوا به البيع. وقوله (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إنكار لتسويتهم بينهما ، ودلالة على أنّ القياس يهدمه النص ، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهى عن الربا (فَانْتَهى) فتبع النهى وامتنع (فَلَهُ ما سَلَفَ) فلا يؤخذ بما مضى منه ، لأنه أخذ قبل نزول التحريم (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) يحكم في شأنه يوم القيامة ، وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به (وَمَنْ عادَ) إلى الربا (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وهذا دليل بين (١) على تخليد الفساق (٢). وذكر فعل الموعظة لأنّ تأنيثها غير حقيقى ، ولأنها في معنى الوعظ. وقرأ أبىٌّ والحسن : فمن جاءته. (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. وعن ابن مسعود رضى الله عنه : الربا وإن كثر إلى قلّ. (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) ما يتصدّق به بأن يضاعف عليه الثواب ويزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه. وفي الحديث «ما نقصت زكاة من مال قط» (٣) (كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار لا من فعل المسلمين.
__________________
ـ إلى خروج عن الظاهر لعذر المبالغة أو غيره ، وليس الغرض من هذا كله إلا بيان هذا الذي تخيلوه على أنموذج النظم الصحيح وإن كان قياسا فاسد الوضع ، لاستعماله على مناقضة المعلوم من حكم الله أيضا في تحريم الربا وتحليل البيع وقطع القياس بينهما ، ولكن إذا استعملت الطريقتين المذكورتين استعمالا صحيحاً فقل في الأولى : النبيذ مثل الخمر في علة التحريم ، وهو الإسكار ، والخمر حرام فالنبيذ حرام. وقل في الثانية : إنما الخمر مثل النبيذ فلو كان النبيذ حلالا لكان الخمر حلالا ، وليست حلالا اتفاقا فالنبيذ كذلك ضرورة المماثلة المذكورة ، فهذا التوجيه أولى أن تحمل الآية عليه ، والله أعلم.
(١) قوله «على تخليد الفساق» وهو مذهب المعتزلة ولا يخلدون عند أهل السنة كما بين في محله (ع)
(٢) قال محمود رحمه الله : «في هذه الآية دليل على تخليد الفساق ... الخ» قال أحمد رحمه الله : وهو يبنى على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة ، ولا يساعده على ذلك الظاهر الذي استدل به ، فان الذي وقع العود إليه مسكوت عنه في الآية. ألا تراه قال : (وَمَنْ عادَ) فلم يذكر المعود إليه ، فيحمل على ما تقدم كأنه قال : ومن عاد إلى ما سلف ذكره فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، والذي سلف ذكره فعل الربا واعتقاد جوازه ، والاحتجاج عليه بقياسه على البيع. ولا شك عندنا ـ أهل السنة والجماعة ـ أن من تعاطى معاملة الربا مستحلا لها مكابراً في تحريمها مسنداً إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات بما يتوهمه من الخيالات فقد كفر ثم ازداد كفراً ، وإذا ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال إنه كافر مكذب غير مؤمن ، وهذا لا خلاف فيه ، فلا دليل للزمخشري إداً على اعتزاله في هذه الآية ، والله الموفق. وإنما هو موكل بتحميل الآيات من المعتقدات الباطلة ما لا تحتمله ، وأنى له ذلك في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
(٣) من رواية العلاء عن أبيه عن أبى هريرة بلفظ «ما نقصت صدقة من مال ... الحديث» ورواه البزار من هذا الوجه ، فزاد فيه «قط».