بالإيجاب والقبول بدون القبض (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين (١) لحسن ظنه به. وقرأ أبىّ : فإن أومن ، أى آمنه الناس (٢) ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن الارتهان من مثله (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن به وأمنه منه وائتمانه له ، وأن يؤدّى إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه. وسمى الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه. والقراءة أن تنطق بهمزة ساكنة بعد الذال أو ياء ، فتقول : الذي اؤتمن ، أو الذي تمن. وعن عاصم أنه قرأ : الذي اتمن ، بإدغام الياء في التاء ، قياساً على اتسر في الافتعال من اليسر ، وليس بصحيح ، لأنّ الياء منقلبة عن الهمزة ، فهي في حكم الهمزة و «اتزر» عامىٌّ ، وكذلك ريا في رؤيا (آثِمٌ) خبر إن. و (قَلْبُهُ) رفع بآثم على الفاعلية ، كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه. ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء. وآثم خبر مقدّم ، والجملة خبر إن. فإن قلت : هلا اقتصر على قوله : (فَإِنَّهُ آثِمٌ)؟ وما فائدة ذكر القلب ـ والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ـ؟ قلت : كتمان الشهادة : هو أن يضمرها ولا يتكلم بها ، فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه ، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عينى ، ومما سمعته أذنى ، ومما عرفه قلبي ، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء
__________________
ـ الشافعي كثيراً من أحكامه عند مالك ، وذلك أنهما لو تقاررا على القبض ثم قام الغرماء انتفع بالرهن عند الشافعي وامتاز به ، ولم ينتفع به عند مالك وكان أسوة الغرماء فيه ، حتى ينضاف إلى الشهادة عليهما بالقبض معاينة البينة لذلك ، لأنه يتهمهما بالتواطؤ على إسقاط حق الغرماء فلا يعتبر إقرارهما إلا بانضمام المعاينة ، فالقبض من هذا الوجه أدخل في الاعتبار على رأى مالك منه على رأى الشافعي ، هذا في الابتداء. وأما في الدوام فمالك رضى الله عنه يشترط بقاءه في يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أجره منه أو أعاره إياه إعارة مطلقة فقد خرج من الرهن ، ولو قام الغرماء وهو بيد الراهن بوجه من الوجوه المذكورة كان أسوة الغرماء فيه ، والشافعي رضى الله عنه لا يشترط دوام القبض على هذا الوجه ، بل للراهن عند الشافعي أن ينتفع بالرهن ولو كره المرتهن إذا لم يكن الانتفاع مضراً بالرهن ، كسكنى الدار ، واستخدام العبد. وله أن يستوفى منافعه بنفسه على الصحيح عنده المنصوص عليه في الأم ولا يؤثر ذلك في الرهن بطلانا ولا خللا ، فقد علمت أن القبض أدخل في الاعتبار على مذهب مالك ابتداء ودواماً ، والآية تعضده فان الرهن في اللغة هو الدوام. أنشد أبو على :
فالخبز واللحم لهم راهن |
|
وقهوة راووقها ساكب |
ولعل القائل باشتراط دوام الرهن في يد المرتهن تمسك بما في لفظ الرهن من اقتضاء الدوام ، وله في ذلك متمسك. وما طولت في حكاية مذهب مالك في القبض ، إلا لأن المفهوم من كلام الزمخشري إطراح القبض عند مالك لأنه فهم من قول أصحابه أن القبض لا يشترط في صحة الرهن ، ولا في لزومه أنه غير معتبر عنده بالكلية ، والله أعلم ،
(١) قوله «المديونين لحسن ظنه به» لعله مسموع شاذ ، والقياس المدينين ، وكذا المديون قياسه المدين. (ع)
(٢) قوله «أى آمنه الناس» الظاهر أنه من الافعال بالكسر ، لا من المفاعلة ، أى جعل الناس البعض وهو الدائن بحيث يأمن البعض الآخر وهو المدين ، وذلك بأن وصفوا له المدين بالأمانة الخ ، فصار الدائن بحيث يأمن المدين. (ع)