معدودات ، واجتماعهم على الإقرار (١) بالنشأة الأخرى وإعادة الأرواح في الأجساد ، ثم افتراقهم فرقتين : منهم من قال : تجرى حالهم في التلذذ بالمطاعم والمشارب والمناكح على حسب مجراها في الدنيا ؛ ودفعه آخرون فزعموا أن ذلك إنما احتيج إليه في هذه الدار من أجل نماء الأجسام ولمكان التوالد والتناسل ، وأهل الجنة مستغنون عنه فلا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ والفرح والسرور ، واختلافهم في الدوام والانقطاع ، فيكون المعطوف غير المعطوف عليه. ويحتمل أن يراد وصف الأوّلين. ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه. فإن قلت : فإن أريد بهؤلاء غير أولئك ، فهل يدخلون في جملة المتقين أم لا؟. قلت : إن عطفتهم على (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) دخلوا وكانت صفة التقوى مشتملة على الزمرتين من مؤمنى أهل الكتاب وغيرهم. وإن عطفتهم على (لِلْمُتَّقِينَ) لم يدخلوا. وكأنه قيل : هدى للمتقين ، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك. فإن قلت : قوله (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إن عنى به القرآن بأسره والشريعة عن آخرها ، فلم يكن ذلك منزلا وقت إيمانهم ، فكيف قيل أنزل بلفظ المضىّ؟ وإن أريد المقدار الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم فهو إيمان ببعض المنزل واشتمال الإيمان على الجميع سالفه ومترقبه واجب. قلت : المراد المنزل كله وإنما عبر عنه بلفظ المضىّ وإن كان بعضه مترقباً ، تغليبا للموجود على ما لم يوجد ، كما بغلب المتكلم على المخاطب ، والمخاطب على الغائب فيقال : أنا وأنت فعلنا ، وأنت وزيد تفعلان. ولأنه إذا كان بعضه نازلا وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل وانتهى نزوله ، ويدل عليه قوله تعالى : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) ولم يسمعوا جميع الكتاب ، ولا كان كله منزلا ، ولكن سبيله سبيل ما ذكرنا. ونظيره قولك : كل ما خطب به فلان فهو فصيح ، وما تكلم بشيء إلا وهو نادر. ولا تريد بهذا الماضي منه فحسب دون الآتي ، لكونه معقوداً بعضه ببعض ، ومربوطا آتيه بماضيه. وقرأ يزيد بن قطيب (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) على لفظ ما سمى فاعله. وفي تقديم (بِالْآخِرَةِ) وبناء (يُوقِنُونَ) على : (هُمْ) تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته ، وأنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان ، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. والإيقان : إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. و (بِالْآخِرَةِ) تأنيث الآخر الذي هو
__________________
(١) قوله «واجتماعهم على الإقرار» لعله عطف على مجرور «من» البيانية ، باعتبار ما عطف عليه من افتراقهم واختلافهم الآتيين فتدبر. (ع)