وأن تراد هي وغيرها من النفقات في سبل الخير ، لمجيئه مطلقاً يصلح أن يتناول كل منفق. وأنفق الشيء وأنفده أخوان. وعن يعقوب : نفق الشيء ، ونفد واحد. وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء ، فدالّ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأملت.
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(٤)
فإن قلت : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) أهم غير الأوّلين أم هم الأوّلون؟ وإنما وسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك هو الشجاع والجواد ، وفي قوله :
إلَى المَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهمامِ |
|
وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ في المُزْدَحمْ (١) |
وقوله :
يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ |
|
الصَّابِحِ فالغَانِم فَالْآيِبِ؟ (٢) |
قلت : يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا ، فاشتمل إيمانهم على كل وحى أنزل من عند الله ، وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأنّ النار لن تمسهم إلا أياما
__________________
(١) الجار والمجرور متعلق بما قبله في الشعر. والقرم ـ بالفتح ـ في الأصل : الفحل المكرم الذي يعفى من العمل لتقديمه وتشويقه إلى ضراب الإبل ، استعاره للسيد الرئيس أو للفارس المعد للمكاره. وظاهر القاموس أنه بمعنى السيد حقيقة. ووسط الواو بين النعوت لتوكيد ربطها بالمنعوت. والهمام : العظيم الهمة ، النافذ العزيمة. واستعار لليث للشجاع على طريق التصريح. والكتيبة : الجيش المنضم المنتظم. والمزدحم : المعركة ؛ لأنها محل الازدحام ، وأصله «مزتحم» من الافتعال قلبت تاؤه دالا.
(٢) يا لهف زيابة للحارث |
|
الصابح فالغانم فالآيب |
والله لو لاقيته خاليا |
|
لآب سيفانا مع الغالب |
لابن زيابة في جواب الحرث بن هشام حين قال له :
أيا ابن زيابة إن تلقني |
|
لا تلقني في النعم العازب |
وتلقني يشد بى أجرد |
|
مستقدم البركة كالراكب |
والعازب ـ بالزاي ـ البعيد عن أهله. يعرض بأن زيابة يراع للنعم لا شجاع. والأجرد : المنجرد الشعر. والبركة في البعير والفرس : العظم الناتئ في صدرهما وعظمه ممدوح فيهما ، وشبهه بالراكب في طول عنقه وامتداده ويجوز أن المعنى أن راكبه أيضا مستقدم البركة لا متخشع منكمش. يقول : يا حسرة أبى على من أجل الحارث الذي بلغ مراده منى. وفيه ضرب من التهكم فان كان توعده ثم نكص على عقبيه. وقيل : هو على ظاهره ، ثم حلف أنه لو وجده لقتله ، ولكنه أبرز الكلام في صورة الإيهام للانصاف في الكلام ورجوع السيفين مع الغالب : كناية عن قتل المغلوب واستلاب سلاحه.