لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قيل : وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة ، أى أعطوهنّ مهورهنّ عن طيبة أنفسكم ، أو على الحال من المخاطبين ، أى آتوهنّ صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء ، أو من الصدقات ، أى منحولة معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل : نحلة من الله عطية من عنده وتفضلا منه عليهن ، وقيل : النحلة الملة ، ونحلة الإسلام خير النحل. وفلان ينتحل كذا : أى يدين به. والمعنى : آتوهن مهورهن ديانة ، على أنها مفعول لها. ويجوز أن يكون حالا من الصدقات ، أى دينا من الله شرعه وفرضه. والخطاب للأزواج. وقيل : للأولياء ، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم ، وكانوا يقولون : هنيئا لك النافجة ، لمن تولد له بنت ، يعنون : تأخذ مهرها فتنفج به مالك أى تعظمه. الضمير في : (مِنْهُ) جار مجرى اسم الإشارة كأنه قيل عن شيء من ذلك ، كما قال الله تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) بعد ذكر الشهوات ، ومن الحجج المسموعة من أفواه العرب ما روى عن رؤبة أنه قيل له في قوله:
كَأنَّهُ فِى الْجِلدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ (١)
فقال : أردت كأن ذاك. أو يرجع إلى ما هو في معنى الصدقات وهو الصداق ، لأنك لو قلت : وآتوا النساء صداقهن ، لم تخل بالمعنى ، فهو نحو قوله : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) كأنه قيل : أصدّق. و (نَفْساً) تمييز ، وتوحيدها لأنّ الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه. والمعنى : فإن وهبن لكم شيئا من الصداق وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم (فَكُلُوهُ) فأنفقوه. قالوا : فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة ، علم أنها لم تطب منه نفسا ، وعن الشعبي : أن رجلا أتى مع امرأته شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع ، فقال شريح : ردّ عليها. فقال الرجل : أليس قد قال الله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) قال لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه. وعنه : أقيلها فيما وهبت ولا أقيلة ، لأنهنّ يخدعن. وحكى أن رجلا من آل معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه ، فلبث شهرا ثم طلقها ، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان ، فقال الرجل : أعطتنى طيبة بها نفسها ، فقال عبد الملك : فأين الآية التي بعدها فلا تأخذوا منه شيئا؟ اردد عليها. وعن عمر رضى الله عنه أنه كتب إلى قضاته : إن النساء يعطين رغبة ورهبة. فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها» (٢)
__________________
ـ لأن دخول الباء وإن لم يكن أصلا ، إلا أنها قد توطنت بهذا الموضوع وكثر حلولها فيه ، فصارت كأن الأصل دخولها في الخبر ، والله أعلم. والأمر في ذلك قريب
(١) مر شرح هذا الشاهد بصفحة ١٤٩ من هذا الجزء فراجعه إن شئت اه مصححه
(٢) أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق من طريق محمد بن عبيد الله الثقفي قال كتب عمر نحوه.