أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها بالختم والتغطية. وقد جعل بعض المازنيين الحبسة في اللسان والعىّ ختما عليه فقال :
خَتَمَ الالهُ عَلى لِسَانِ عُذَافِرٍ |
|
خَتْماً فلَيْسَ عَلى الكلامِ بقَادِرِ |
وإذا أَرَادَ النُّطْقَ خِلْتَ لِسَانَهُ |
|
لَحْماً يُحَرِّكُهُ لِصَقْرٍ نَاقِرِ (١) |
فإن قلت : فلم أسند الختم إلى الله تعالى (٢) وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل
__________________
(١) لرجل من فزارة واستعار الختم المانع من زيادة الكتاب ونقصه للمنع من الكلام. وعذافر ـ بالضم ـ اسم رجل. ويطلق على الشديد العظيم ، وعلى الأسد. والبيت معناه الاخبار عن حال عذافر ، وهو الظاهر من التفريع ويبعد أنه دعاء عليه. وفاعل يحرك لعذافر. شبه لسانه باللحم الذي ينقره الصقر بجامع تحرك كل بغير استقامة مع عدم التلفظ ، وهذا مما يدل على أن البيت إخبار لا دعاء.
(٢) قال محمود رحمه الله : «فان قلت فلم أسند الختم إلى الله تعالى ... الخ»؟ قال أحمد رحمه الله : هذا أول عشواء خبطها في مهواة من الأهواء هبطها ، حيث نزل من منصة النص إلى حضيض تأويله ؛ ابتغاء الفتنة استبقاء لما كتب عليه من المحنة ، فانطوى كلامه هذا على ضلالات أعدها وأردها :
الأولى : مخالفة دليل العقل على وحدانية الله تعالى. ومقتضاه أنه لا حادث إلا بقدرة الله تعالى لا شريك له ، والامتناع من قبول الحق من جملة الحوادث ؛ فوجب انتظامه في سلك متعلقات القدرة العامة المتعلق بالكائنات والممكنات.
الثانية : مخالفة دليل النقل المضاهي لدليل العقل كأمثال قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) وهذه الآية أيضا ؛ فان الختم فيها مسند إلى الله تعالى نصا. والزمخشري رحمه الله لا يأبى ذلك ، ولكنه يدعى الالتجاه إلى تأويلها لدليل قام عنده عليه. فإذا أثبت أن الدليل العقلي على وفق ما دلت عليه ، وجب عليه إبقاؤها على ظاهرها بل لو وردت على خلاف ذلك ظاهرا ، لوجب تأويلها بالدليل جمعاً بين العقل والنقل.
الثالثة : الفرار من نسبة ما اعتقده قبحاً إلى الله تعالى تنزيها ، على زعمه أن الاشراك به في اعتقاد أن الشيطان هو الذي يخلق الختم والكافر يخلفه لنفسه بقدرته على خلاف مراد ربه. فلقد استوخم من السنة المناهل العذاب وورد من حميم البدعة موارد العذاب.
الرابعة : الغلط باعتقاد أن ما يقبح شاهدا يقبح غائبا ، فلما كان المنع من قبول الحق قبيحا في الشاهد وجب على زعمه أن يكون قبيحا من الغائب. وهذه قاعدة قد فرغ من بطلانها في فنها.
الخامسة : اعتقاده أن ذلك لو فرض وجوده بقدرة الله تعالى لكان ظلما ، والله تعالى منزه عن الظلم بقوله تعالى (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ومن الظلم البين جهل حقيقة الظلم ؛ فانه التصرف في ملك الغير بغير إذنه. فكيف يتصور ثبوت حقيقته لله تعالى؟ وكل مفروض محصور بسور ملكه عز وجل : الملك لله الواحد القهار.
السادسة : أنه فر من اعتقاد نسبة الظلم إلى الله تعالى فتورط فيه إلى عنقه ؛ لأنه قد جزم بأن المنع من قبول الحق لو كان من فعل الله تعالى لكان ظلما. فيقال له : وقد قام البرهان على أنه من فعل الله تعالى فيلزمك أن يكون ظلما ـ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ـ والخيال الذي يدندن حوله هؤلاء : أن أفعال العبد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم ـ