إليه بطرقه وهو قبيح والله تعالى عن فعل القبيح (١) علوا كبيرا لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عنه. وقد نص على تنزيه ذاته بقوله : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) ، (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ونظائر ذلك مما نطق به التنزيل؟ قلت : القصد إلى صفة القلوب بأنها كالمختوم عليها. وأما إسناد الختم إلى الله عز وجل ، فلينبه على أنّ هذه الصفة في فرط تمكنها وثبات قدمها كالشىء الخلقي غير العرضي. ألا ترى إلى قولهم : فلان مجبول على كذا ومفطور عليه ، يريدون أنه بليغ في الثبات عليه. وكيف يتخيل ما خيل إليك وقد وردت الآية ناعية على الكفار شناعة صفتهم وسماجة حالهم ، ونيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم؟ ويجوز أن تضرب الجملة كما هي ، وهي ختم الله على قلوبهم مثلا كقولهم : سال به الوادي ، إذا هلك. وطارت به العنقاء ، إذا أطال الغيبة ، وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في
__________________
ـ ولا قامت حجة الله عليهم. وهذه الشبه قد أجراها في أدراج كلامه المتقدم ، فيقال لهم : لم قلتم إنها لو كانت مخلوقة لله لما نعاها على عباده؟ فان أسندوا هذه الملازمة ـ وكذلك يفعلون ـ إلى قاعدة التحسين والتقبيح وقالوا : معاقبة الإنسان بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت المعاقبة من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائباً. قيل لهم : ويقبح في الشاهد أيضاً أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى منه ومسمع ، ثم يعاقبه على ذلك من القدرة على ردعه ورده من الأول عنها. وأنتم معاشر القدرية تزعمون أن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة لله تعالى ، على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها لنفسه ذلك ، فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبى به الحريم ، وذلك في الشاهد قبيح جزما. فسيقولون : أجل إنه لقبيح في الشاهد ، ولكن هناك حكمة استأثر الله تعالى بعلمها فرقت بين الشاهد والغائب ، فحسن من الغائب تمكين عبده من الفواحش مع القدرة على أن لا يقع منه شيء ، ولم يحسن ذلك في الشاهد. وفي هذا الموطن تتزلزل أقدامهم وتتنكس أعلامهم ، إذا لاحت لهم قواطع اليقين وبوارق البراهين ؛ فيقال لهم : ما المانع أن تكون تلك الأفعال مخلوقة لله تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة وحكمة استأثر الله بها كما فرغتم منه الآن سواء؟ فلم لا يسلك أحدكم الطريق الأعدل وينظر عاقبة هذا الأمر فيصير آخر أول ، وليفوض من الابتداء إلى خالقه ، ويتلقى حجة الله تعالى عليه بالقبول والتسليم ، ويسلك مهتديا بنور العقل ومقتديا بدليل الشرع الصراط المستقيم ؛ فان نازعته النفس وحادثته الهواجس ورغب في مستند من حيث النظر يأنس به من مفاوز الفكر ، فليخطر بباله ما ذكر عند كل عاقل من التمييز بين الحركة الاختيارية والقسرية ، فلا يجد عنده في هذه التفرقة ريباً. فإذا استشعر ذلك فليتنبه فقد لطف به إلى أن انحرف عن مضايق الجبر ، فارا أن يلوح به شيطان الضلال إلى مهامه الاعتزال ، فليمسك نفسه دونها بزمام دليل الوحدانية على أن لا فاعل ولا خالق إلا الله تعالى ، فإذا وقف لم يقف إلا وهو على الصراط المستقيم والطريقة المثلى ، ماراً عليها في أسرع من البرق الخاصف والريح العاصف؟ فليتأمل الناظر هذا الفصل ، ويتخذه وزره في قاعدة الأفعال ، يقف على الحق إن شاء الله تعالى.
(١) قوله «والله يتعالى عن فعل القبيح» هذا مذهب المعتزلة. أما عند أهل السنة فيجوز عليه تعالى خلق الشر وإرادته كالخير ، وإن كان لا يأمر إلا بالخير. والختم على القلوب عندهم. خلق الضلال فيها كما بين في علم التوحيد. (ع)