فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر ، إلا أنّ الله سبحانه لما كان هو الذي أقدره ومكنه ، أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب. ووجه رابع : وهو أنهم لما كانوا على القطع والبت ممن لا يؤمن ولا تغنى عنهم الآيات والنذر ، ولا تجدى عليهم الألطاف المحصلة ولا المقربة إن أعطوها ، لم يبق ـ بعد استحكام العلم بأنه لا طريق إلى أن يؤمنوا طوعا واختياراً ـ طريق إلى إيمانهم إلا القسر والإلجاء ، وإذا لم تبق طريق إلا أن يقسرهم الله ويلجئهم ثم لم يقسرهم ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض في التكليف ، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم ، إشعاراً بأنهم الذين ترامى أمرهم في التصميم على الكفر والإصرار عليه إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء ، وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغى واستشرائهم في الضلال والبغي. ووجه خامس : وهو أن يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما بهم من قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) ونظيره في الحكاية والتهكم قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). فإن قلت : اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية (١) فعلى أيهما يعوّل؟ قلت : على دخولها في حكم الختم لقوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم. فإن قلت : أىّ فائدة في تكرير الجارّ في قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ)؟ قلت : لو لم يكرّر لكان انتظاما للقلوب والأسماع في تعدية واحدة ؛ وحين استجدّ للأسماع تعدية على حدة ، كان أدل على شدة الختم في الموضعين. ووحد السمع كما وحد البطن في قوله : كلوا في بعض بطنكم تعفوا ، يفعلون ذلك إذا أمن اللبس. فإذا لم يؤمن كقولك : فرسهم ،
__________________
ـ ويجوز أن المراد أن الحالة جدب حتى أن صاحب القدر برد المستعير حرصا على ما فيها من بقية المرق ولو قليلة ؛ فضمير «كانوا» لمن يستعيرها ويجوز أن عافى القدر : مفعول لم يظهر نصبه للوزن ، و «من يستعيرها» فاعل ؛ لأنه كان من عادة العرب في الجدب أن برد المستعير بقية من المرق في القدر للمعير ، فهو كناية عن الجدب ؛ لكن لا تتم مناسبة لما بعده : ويجوز أن يكون المعنى إذا منع مستعير القدر عافيها أى طالب الرزق منها ولبخله وعدم نزول الضيفان عنده ، لا يملك لنفسه قدرا ، فإذا استعار قدرا ليطبخ فيها مرة منع طالب الرزق منها. وعلى هذا يحتمل أنه جمع حذفت نونه للاضافة فنصبه بالياء ، فهذه أربعة وجوه.
(١) قال محمود رحمه الله : «اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية ... الخ». قال أحمد رحمه الله وكان جدي رحمه الله يذكر هذا ويزيد عليه أن الأسماع والقلوب لما كانت محوية كان استعمال الختم لها أولى ، والأبصار لما كانت بارزة وإدراكها متعلق بظاهرها كان الغشاء لها أليق.