(فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) وقرئ : رسالاته ، فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالات ، ولم تؤدّ منها شيئاً قط ، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض ، وإن لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها ، لإدلاء كل منها بما يدليه (١) غيرها. وكونها كذلك (٢) في حكم شيء واحد. والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ ، مؤمنا به غير مؤمن به. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : إن كتمت آية لم تبلغ رسالاتي. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعا ، فأوحى الله إلىّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك. وضمن لي العصمة فقويت (٣). فإن قلت : وقوع قوله (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالات وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولا كان أمراً شنيعاً لا خفاء بشناعته ، فقيل : إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كان كلمة واحدة ، فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها ، كما عظم قتل النفس بقوله : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) والثاني : أن يراد : فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحى كله من العقاب فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام «فأوحى الله إلىّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك» (وَاللهُ يَعْصِمُكَ) عدة من الله بالحفظ والكلاءة والمعنى : والله يضمن لك العصمة من أعدائك ، فما عذرك في مراقبتهم؟ فإن قلت : أين ضمان العصمة وقد شجّ في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته (٤) صلوات الله عليه؟ قلت : المراد أنه يعصمه من القتل. وفيه : أن عليه أن يحتمل كل ما دون النفس في ذات الله ، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : نزلت بعد يوم أحد ، والناس الكفار بدليل قوله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
__________________
ـ وأنه غنى عن ذكرها لشهرتها وذياعها ، وكذلك أريد في الآية لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام أنه عظيم شنيع ينقم على مرتكبه ، بل عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول ، فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام وإن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد. وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما بقوله (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) ولم يقل وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ، حتى يكون اللفظ متغايراً ، وهذه المغايرة اللفظية وإن كان المعنى واحداً أحسن رونقاً وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء ، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدإ بلفظ الخير ، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحته المعجز فلا يعاب عليه في ذلك ، وهذا الفصل كاللباب من علم البيان ، والله الموفق.
(١) قوله «بما يدليه» لعله : يدلى به. (ع)
(٢) قوله «وكونها كذلك» لعله «لذلك». (ع)
(٣) أخرجه إسحاق في مسنده. أخبرنا كلثوم بن محمد بن أبى سدرة ، حدثنا عطاء الخراساني عن أبى هريرة ولم يذكر وضمن لي العصمة فقويت وذكره الواحدي في الوسيط والأسباب عن الحسن بغير سند.
(٤) متفق عليه من حديث سهل. وقد تقدم في تفسير آل عمران ،