والحمد باللسان وحده ، فهو إحدى شعب الشكر ، ومنه قوله عليه السلام : «الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لم يحمده» (١) وإنما جعله رأس الشكر ؛ لأنّ ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها ، أشيع لها وأدلّ على مكانها من الاعتقاد وآداب الجوارح لخفاء عمل القلب ، وما في عمل الجوارح من الاحتمال ، بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح عن كلّ خفى ويجلى كل مشتبه.
والحمد نقيضه الذمّ ، والشكر نقيضه الكفران ، وارتفاع الحمد بالابتداء وخبره الظرف الذي هو لله وأصله النصب (٢) الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله على أنه من المصادر التي تنصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار ، كقولهم : شكراً ، وكفراً ، وعجباً ، وما أشبه ذلك ، ومنها : سبحانك ، ومعاذ الله ، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدّون بها مسدّها ، لذلك لا يستعملونها معها ويجعلون استعمالها كالشريعة المنسوخة ، والعدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره. ومنه قوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) ، رفع السلام الثاني للدلالة على أنّ إبراهيم عليه السلام حياهم بتحية أحسن من تحيتهم ؛ لأن الرفع دال على معنى ثبات السلام لهم دون تجدّده وحدوثه. والمعنى : نحمد الله حمداً ، ولذلك قيل : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ؛ لأنه بيان لحمدهم له ، كأنه قيل : كيف تحمدون؟ فقيل : إياك نعبد. فإن قلت : ما معنى التعريف فيه؟ قلت : هو نحو التعريف في أرسلها العراك ، (٣) وهو تعريف الجنس ،
__________________
ـ نعمتكم على إفادتكم من يدي ولساني وجناني ، فهي وأعمالها لكم ، قال السيد الشريف : هو استشهاد معنوي على أن الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة ، وبيان أنه جعلها جزاء للنعمة ، وكل ما هو جزاء للنعمة عرفا يطلق عليه الشكر لغة ، فكأنه قال : كثرت نعمتكم عندي فوجب على استيفاء أنواع الشكر لكم ، وبالغ في ذلك حتى جعل مواردها ملكا لهم ، وقيل : النعماء جمع للنعمة ، لكن ظاهر عبارة اليد أنها بمعناها ، ورواية البيت الأول بعد الثاني أحسن موقعا وأظهر استشهاداً.
(١) أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما به مرفوعا ، وفيه انقطاع ؛ وعن ابن عباس مثله ، رواه البغوي في تفسير (سبحان) وفيه نصر بن حماد. وهو ضعيف.
(٢) قال محمود رحمه الله : «الأصل في الحمد النصب ... الخ» قال أحمد : ولأن الرفع أثبت اختار سيبويه في قول القائل : رأيت زيداً فإذا له علم علم الفقهاء : الرفع ، وفي مثل : رأيت زيداً فإذا له صوت صوت حمار : النصب ، والسر في الفرق بين الرفع والنصب أن في النصب إشعاراً بالفعل ، وفي صيغة الفعل إشعار بالتجدد والطرو ، ولا كذلك الرفع ، فانه إنما يستدعى اسما : ذلك الاسم صفة ثابتة ، ألا ترى أن المقدر مع النصب نحمد الله الحمد. ومع الرفع الحمد ثابت لله أو مستقر.
(٣) قال محمود رحمه الله : «وتعريف الحمد نحو التعريف في أرسلها العراك وهو تعريف الجنس ومعناه الخ» قال أحمد رحمه الله : تعريف التكرار باللام إما عهدى وإما جنسى ، والعهد إما أن ينصرف العهد فيه إلى فرد معين من أفراد الجنس باعتبار يميزه عن غيره من الأفراد كالتعريف في نحو (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ، وإما أن ينصرف العهد فيه الى ـ