وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) وهكذا شأن المنصفين إذا رأوا الآية ، وقامت عليهم الحجة ، لقد عرفوا ـ لعلمهم بالسحر ـ أن المسألة ليست بسحر ، وبقي الكافر اللعين فرعون يزعم أن فعلة موسى سحر (قالَ) فرعون حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة (آمَنْتُمْ لَهُ) أي صدقتموه (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي وما أمرتكم بذلك فافتئتم علي في ذلك ، طالبهم بمنطق السلطان بالطاعة ، والانضباط والتقيد بالأوامر ، وعدم التصرف إلا بإذن ، ولم يدر أن سلطان الله فوق سلطانه ، وأمر الله فوق أمره ، ثم قال لهم قولا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ) أي لعظيمكم أو لمعلمكم (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى ، واتفقتم أنتم وإياه علي ، وعلى رعيتي لتظهروه ، ثم لجأ إلى سلاح الإرهاب والتهديد ، وهو سلاح الظالمين الأخير (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) القطع من خلاف : أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر ، بأن هذا يد وذاك رجل ، وهذا يمين وذاك شمال يعني : لأقطعنها مختلفات (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) هددهم بأن يجمع لهم بين القطع والصلب ، وتلك أفظع موتة ، لأنها تجمع بين المثلة والألم والتشهير ثم قال (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) أي أنا على ترك إيمانكم بي ، أو رب موسى على ترك الإيمان به ، أو أنا أو موسى عذابنا أشد وأبقى؟ أي أكثر ألما وأدوم (قالُوا) أي السحرة (لَنْ نُؤْثِرَكَ) أي لن نختارك (عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) أي الأدلة القاطعة الدالة على صدق موسى (وَالَّذِي فَطَرَنا) أي لن نختارك على الذي جاءنا ولا على الذي خلقنا (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) أي فاحكم ما أنت حاكم ، أي فاصنع ما أنت صانع من القتل والصلب ، أي فافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي في هذه الحياة الدنيا ، أي إنما تحكم فينا مدة حياتنا.
قال ابن كثير : أي إنما لك تسلط في هذه الدار ، وهي دار الزوال ، ونحن قد رغبنا في دار القرار (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) أي ذنوبنا (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) أي وليغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر ، لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه (وَاللهُ خَيْرٌ) لنا منك ، أو خير ثوابا لمن أطاعه (وَأَبْقى) وأبقى عقابا لمن عصاه ، وهو رد لقول فرعون (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى.)