أراد بكفي رجل كان إلخ. وهذا ـ كما حقق في موضعه ـ رأي بعض ، وأما غيره فيقول : متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقا فيجوز أن يرى المجوز هذا الرأي ومنعه من حيث رفع الميتة ـ كما قال السفاقسي ـ فيه نظر لأن الضمير يعود على ما يعود عليه بتقدير النصب والرفع لا يمنع من ذلك ، نعم الإعراب الأول أولى كما لا يخفى (فَمَنِ اضْطُرَّ) أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك (غَيْرَ باغٍ) أي طالب ما ليس له طلبه بأن يأخذ ذلك من مضطر آخر مثله. وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين.
وقال الحسن : أي غير متناول للذة ؛ وقال مجاهد : (غَيْرَ باغٍ) على إمام (وَلا عادٍ) أي متجاوز قدر الضرورة (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك. وهذا جزاء الشرط لكن باعتبار لازم معناه وهو عدم المؤاخذة. وبعضهم قال بتقدير جزاء يكون هذا تعليلا له ولا حاجة إليه.
ونصب (غَيْرَ) على أنه حال. وكذا ما عطف عليه. وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد بالمعنى السابق لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر وهو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم ميتة مثلا من مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر. وأما الحال الثانية فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث إنه لحم الميتة.
وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكن الله تعالى يغفر له ويرحمه. وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولا تغفل. واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات من المطعومات في أربعة : الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير ، والفسق الذي أهلّ لغير الله تعالى به ، ولا شك أنها أكثر من ذلك. وأجيب بأن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب كما أشرنا إليه. وحينئذ يكون استثناء الأربعة منه منقطعا أي لا أجد ما حرموه لكن أجد الأربعة محرمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر. والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر كما نبهوا عليه وهو مما ينبغي التنبه له.
فإن قلت : المستثنى ليس (مَيْتَةً) بل كونه ميتة وذلك ليس من جنس الطعام فيكون الاستثناء منقطعا لا محالة فلا حاجة إلى ذلك التقييد. قال القطب : نعم كذلك إلا أن المقصود إخراج الميتة من الطعام المحرم يعني لا أجد محرما إلا الميتة فلو لا التقييد كان في الحقيقة استثناء متصلا وورد الأشكال. وضعف ذلك الجواب بأوجه. منها أنه تعالى قال في سورة البقرة وفي سورة [النحل : ١١٥] : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وإنما تفيد الحصر ، وقال سبحانه في سورة [المائدة : ١] : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله عزوجل : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [المائدة : ٣] وأما المنخنقة والموقوذة وغيرهما فهي أقسام الميتة. وإنما أعيدت بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فالآيتان تدلان على أن لا محرم إلا الأربعة وحينئذ يجب القول بدلالة الآية التي نحن بصددها على الحصر لتطابق ذلك وأن لا تقييد مع أن الأصل عدم التقييد.
وأجيب عن الإشكال بأن الآية إنما تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية محرما غير ما نص عليه فيها وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر قيل : وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا بمعنى لا أجد شيئا من المطاعم محرما في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو