مسامعهم من شرائع الرسل عليهمالسلام تفويض الأمور إليه سبحانه فحين طالبوهم بالإسلام والتزام الأحكام احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزءين بهم عليهم الصلاة والسلام ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به عز شأنه وهو عنهم مناط العيوق.
(إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي ما تتبعون في ذلك (إِلَّا الظَّنَ) الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا أو المراد إن عادتكم وجل أمركم أنكم لا تتبعون إلا الظن (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) تكذبون على الله تعالى ، وقد تقدم الكلام في حكم اتباع الظن على التفصيل فتذكر (قُلْ فَلِلَّهِ) خاصة (الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) أي البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه كعيشة راضية ، والمراد بها في المشهور الكتاب والرسول والبيان ، وقال شيخ مشايخنا الكوراني : (الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) إشارة إلى أن العلم تابع للمعلوم وأن إرادة الله تعالى متعلقة بإظهار ما اقتضاه استعداد المعلوم في نفسه مراعاة للحكمة جودا ورحمة لا وجوبا. وهي من الحج بمعنى القصد كأنها يقصد به إثبات الحكم وتطلبه أو بمعنى الغلبة وهو المشهور ، والفاء جواب شرط محذوف أي إذا ظهر أن لا حجة لكم قل فلله الحجة (فَلَوْ شاءَ) هدايتكم جميعا (لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك.
وقال الكوراني : المراد لكنه لم يشأ إذ لم يعلم أن لكم هداية يقتضيها استعدادكم بل المعلوم له عدم هدايتكم وهو مقتضى استعدادكم الأزلي الغير المجعول. وهذا تحقيق للحق ولا ينافي ما في صدر الآية لما علمت من مرادهم به ، وفائدة إرسال الرسل على القول بالاستعداد تحريك الدواعي للفعل والترك باختيار المكلف الناشئ من ذلك الاستعداد وقطع اعتذار الظالمين ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل فتذكر. وذكر ابن المنير وجها آخر في توجيه ما في الآية وهو أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم وشبهتهم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله عزوجل واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة ، ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له جل وعلا لا لهم ، ثم أوضح سبحانه أن كل واقع ، واقع بمشيئته وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون.
المقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد وينصرف الرد إلى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم وإن أقامتهم الحجة بذلك خاصة ، وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا بصدور الجبرية وعجزها معجزا للمعتزلة إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان. والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية ، وبذلك تقوم الحجة البالغة لأهل السنة على المعتزلة والحمد لله رب العالمين.
ووجه القطب الآية بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهمالسلام على معنى أن الله تعالى شاء شركنا وأراده منا وأنتم تخالفون إرادته حيث تدعونا إلى الإيمان فوبخهم سبحانه بوجوه عد منها قوله سبحانه : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فإنه بتقدير الشرط أي إذا كان الأمر كما زعمتم فلله الحجة.
وقوله سبحانه : (فَلَوْ شاءَ) إلخ بدل منه على سبيل البيان أي لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه فلو كان الأمر كما تزعمون لكان الإسلام أيضا بالمشيئة فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام كما وجب