ولا يكون ذلك إلا من عالم مدبر ، وإلى هذا ذهب الحسن أو جعلكم خلفاء الله تعالى في أرضه تتصرفون فيها ـ كما قيل ـ والخطاب عليهما عام ، وقيل : الخطاب لهذه الأمة ، وروي ذلك عن السدي أي جعلكم خلفاء الأمم السالفة (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) في الفضل والغنى كما روي عن مقاتل (دَرَجاتٍ) كثيرة متفاوتة (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ليعاملكم معاملة من يبتليكم لينظر ما ذا تعملون مما يرضيه وما لا يرضيه (إِنَّ رَبَّكَ) تجريد الخطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم مع إضافة اسم الرب إليه عليه الصلاة والسلام لإبراز مزيد اللطف به صلىاللهعليهوسلم (سَرِيعُ الْعِقابِ) أي عقابه سبحانه الأخروي سريع الإتيان لمن لم يراع حقوق ما آتاه لأن كل آت قريب أو سريع التمام عند إرادته لتعاليه سبحانه عن استعمال المبادئ والآلات.
وجوز أن يراد بالعقاب عقاب الدنيا كالذي يعقب التقصير من البعد عن الفطرة وقساوة القلب وغشاوة الأبصار وصم الأسماع ونحو ذلك (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن راعى حقوق ما آتاه الله تعالى كما ينبغي.
وفي جعل خبر هذه الجملة هذين الوصفين الواردين على بناء المبالغة مع التأكيد باللام مع جعل خبر الأولى صفة جارية على غير من هي له ما لا يخفى من التنبيه على أنه سبحانه غفور رحيم بالذات لا تتوقف مغفرته ورحمته على شيء كما يشير إليه قوله سبحانه في الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي» مبالغ في ذلك فاعل للعقوبة بالعرض وبعد صدور ذنب من العبد يستحق به ذلك ، وما ألطف افتتاح هذه السورة بالحمد وختمها بالمغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفر منهما إنه ولي الإنعام وله الحمد في كل ابتداء وختام.
ومن باب الإشارة في الآيات : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله تعالى وأثبتوا وجودا غير وجوده (لَوْ شاءَ اللهُ) تعالى (ما أَشْرَكْنا) به سبحانه شيئا (وَلا) أشرك (آباؤُنا) من قبلنا (وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) قالوا ذلك تكذيبا للرسل عليهمالسلام (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وقالوا مثل قولهم (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) الذي حل بهم لتكذيبهم وهو الحجاب (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) فتخرجوه لنا بالبيان (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) لأنكم محجوبون في مقام النفس (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) أي إن كان الأمر كما قلتم فليس لكم حجة بل لله تعالى الحجة عليكم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلمه في الأزل ولا يعلم الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه فلو لم تكونوا في أنفسكم مشركين سيئي الاستعداد لما شاء الله تعالى ذلك منكم (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) لكنه لم يشأ إذ ليس في استعدادكم الأزلي ذلك.
وتحتمل الآية وجوها أخر لعلها غير خفية (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) فإن إثبات موجود غير الله تعالى ظلم عظيم (وَبِالْوالِدَيْنِ) أي الروح والقلب أحسنوا (إِحْساناً) برعاية حقوقهما (وَلا تَقْتُلُوا) أي تهلكوا (أَوْلادَكُمْ) قواكم باستعمالها في غير ما هي له (مِنْ إِمْلاقٍ) أي من أجل فقركم من الفيض الأقدس (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) بأن نفيض عليكم وعليهم ما تتغذون به من المعارف بمقدار إذا توجهتم إلينا (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) الأعمال الشنيعة (ما ظَهَرَ مِنْها) كأفعال الجوارح (وَما بَطَنَ) كأفعال القلب (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) تعالى قتلها (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا بسببه بأن تريدوا توجهها إليه أو إلا قتلا متلبسا به وهو قتلها إذا مالت إلى السوي (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) أي ما أعد ليتيم القلب المنقطع عن علائق الدنيا والآخرة من المعارف التي هي وراء طور العقل (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وهي التصديق بذلك إجمالا وعدم إنكاره (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فيقوى على قبول أنواع التجليات ، وحينئذ يصح لكم أن تقربوا ما أعد الله تعالى له من هاتيك المعارف لقوة قلوبكم وتقدس أرواحكم.