فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» ولعل عدم عدم نظم هذا الرضوان في سلك الوعد على طرز ما تقدم مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موجود ولأنه مستمر في الدارين (ذلِكَ) أي جميع ما ذكر (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) دون ما يعده الناس فوزا من حظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظر عن فنائها وتغيرها وتنغصها بالآلام ليست بالنسبة إلى أدنى شيء من نعيم الآخرة إلا بمثابة جناح البعوض ، وفي الحديث «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء» ولله در من قال :
تالله لو كانت الدنيا بأجمعها |
|
تبقى علينا وما من رزقها رغدا |
ما كان من حق حر أن يذل بها |
|
فكيف وهي متاع يضمحلّ غدا |
وجوز أن تكون الإشارة إلى الرضوان فهو فوز عظيم يستحقر عنده نعيم الدنيا وحظوظها أيضا أو الدنيا ونعيمها والجنة وما فيها ، وعلى الاحتمالين لا ينافي قوله سبحانه : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : ٨٩] فقد فسر فيه ـ العظيم ـ بما يستحقر عنده نعيم الدنيا فتدبر.
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) ظاهره يقتضي مقاتلة المنافقين وهم غير مظهرين للكفر ولا نحكم بالظاهر لأنا نحكم بالظاهر كما في الخبر ولذا فسر ابن عباس والسدي ومجاهد جهاد الأولين بالسيف والآخرين باللسان وذلك بنحو الوعظ وإلزام الحجة بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا يرضى وهو أعم من أن يكون بالقتال أو بغيره فإن كان حقيقة فظاهر وإلا حمل على عموم المجاز. وروي عن الحسن وقتادة أن جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم. واستشكل بأن إقامتها واجبة على غيرهم أيضا فلا يختص ذلك بهم. وأشار في الأحكام إلى دفعه بأن أسباب الحد في زمنه صلىاللهعليهوسلم أكثر ما صدرت عنهم ، وأما القول بأن المنافق بمعنى الفاسق عند الحسن فغير حسن. وروي ـ والعهدة على الراوي ـ أن قراءة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم «جاهد الكفار بالمنافقين» والظاهر أنها لم تثبت ولم يروها إلا الشيعة وهم بيت الكذب (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي على الفريقين في الجهاد بقسميه ولا ترفق بهم. عن عطاء نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) استئناف لبيان آجل أمرهم إثر بيان عاجله. وذكر أبو البقاء في هذه ثلاثة أوجه : أحدها أنها واو الحال والتقدير افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنم وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم ، والثاني أنها جيء بها تنبيها على إرادة فعل محذوف أي واعلم أن مأواهم جهنم ، والثالث أن الكلام محمول على المعنى وهو أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة وعذاب الآخرة بجعل جهنم مأواهم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) تذييل لما قبله والمخصوص بالذم محذوف أي مصيره (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) استئناف لبيان ما صدر منهم من الجرائم الموجبة لما مر.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهيني فقال عبد الله بن أبي للأوس انصروا أخاكم والله ما مثلنا ومثل محمد صلىاللهعليهوسلم وحاشاه مما يقول هذا المنافق إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله تعالى ما قاله فنزلت. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال : لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين قال الجلاس (١) بن سويد : والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير فسمعهما عمير بن سعد فقال : والله يا
__________________
(١) بوزن غراب ا ه منه