جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي أثرا ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن سكت عنها لتهلكني ولإحداهما أشد علي من الأخرى فمشى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذكر له ما قال الجلاس فحلف بالله تعالى ما قال ولقد كذب عليّ عمير فنزلت.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أنها لما نزلت أخذ النبي صلىاللهعليهوسلم بأذن عمير فقال : وفت أذنك يا غلام وصدقك ربك وكان يدعو حين حلف الجلاس اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب.
وأخرج عن عروة أن الجلاس تاب بعد نزولها وقبل منه. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم جالسا في ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاء فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين فدعاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله تعالى ما قالوا حتى تجاوز عنهم وأنزل الله تعالى الآية ، وإسناد الحلف إلى ضمير الجمع على هذه الرواية ظاهر وأما على الروايتين الأوليين فقيل : لأنهم رضوا بذلك واتفقوا عليه فهو من إسناد الفعل إلى سببه أو لأنه جعل الكلام لرضاهم به كأنهم فعلوه ولا حاجة إلى عموم المجاز لأن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز في المجاز العقلي وليس محلا للخلاف ، وإيثار صيغة الاستقبال في (يَحْلِفُونَ) على سائر الروايات لاستحضار الصورة أو للدلالة على تكرير الفعل وهو قائم مقام القسم ، و (ما قالُوا) جوابه (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) هي ما حكي من قولهم والله ما مثلنا إلخ أو والله لئن كان هذا الرجل صادقا إلخ أو الشتم الذي وبخ عليه عليه الصلاة والسلام ، والجملة مع ما عطف عليها اعتراض (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أظهروا ما في قلوبهم من الكفر بعد إظهار الإسلام وإلا فكفرهم الباطن كان ثابتا قبل والإسلام الحقيقي لا وجود له (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) من الفتك برسول الله صلىاللهعليهوسلم حين رجع من غزوة تبوك. أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة بن اليمان قال كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلىاللهعليهوسلم أقود به وعمار يسوق أو أنا أسوق وعمار يقود حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوا فيها فأنبهت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فصرخ بهم فولوا مدبرين فقال لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هل عرفتم القوم؟ قلنا : لا يا رسول الله كانوا متلثمين ولكن قد عرفنا الركاب قال : هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة. هل تدرون ما أرادوا؟ قلنا : لا. قال : أرادوا أن يزلوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في العقبة فيلقوه منها قلنا : يا رسول الله أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث لك كل قوم برأس صاحبهم قال : أكره أن يتحدث العرب عنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم ، ثم قال : اللهم ارمهم بالدبيلة ، قلنا : يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال : شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك وكانوا كلهم كما أخرج ابن سعد عن نافع بن جبير من الأنصار أو من حلفائهم ليس فيهم قرشي ، ونقل الطبرسي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب لا يعول عليه.
وقد ذكر البيهقي من رواية ابن إسحاق أسماءهم وعد منهم الجلاس بن سويد ، ويشكل عليه رواية أنه تاب وحسنت توبته مع قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة» إلا أن يقال : إن ذلك باعتبار الغالب ، وقيل : المراد بالموصول إخراج المؤمنين من المدينة على ما تضمنه الخبر المار عن قتادة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي وأبو الشيخ عنه وعن أبي صالح أنهم أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بتاج ويجعلوه حكما ورئيسا بينهم وإن لم يرض رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : أرادوا أن يقتلوا عميرا لرده على الجلاس كما مر.
(وَما نَقَمُوا) أي ما كرهوا وعابوا شيئا (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) فالاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي وما نقموا الإيمان لأجل شيء إلا لإغناء الله تعالى إياهم فيكون الاستثناء مفرغا من أعم العلل وهو على حد