قولهم : ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك ، وقوله :
ما نقم الناس من أمية إلا |
|
أنهم يحلمون إن غضبوا (١) |
وهو متصل على ادعاء دخوله بناء على القول بأن الاستثناء المفرغ لا يكون منقطعا ، وفيه تهكم وتأكيد الشيء بخلافه كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
البيت ، وأصل النقمة كما قال الراغب الإنكار باللسان والعقوبة والأمر على الأول ظاهر وأما على الثاني فيحتاج إلى ارتكاب المجاز بأن يراد وجدان ما يورث النقمة ويقتضيه ، وضمير (أَغْناهُمُ) للمنافقين على ما هو الظاهر ، وكان إغناؤهم بأخذ الدية ، فقد روي أنه كان للجلاس مولى قتل وقد غلب على ديته فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بها اثني عشر ألفا فأخذها واستغنى ، وعن قتادة أن الدية كانت لعبد الله بن أبي وزيادة الألفين كانت على عادتهم في الزيادة على الدية تكرما وكانوا يسمونها شنقا كما في الصحاح. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال : كان جلاس تحمل حمالة أو كان عليه دين فأدى عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وذلك قوله سبحانه : (وَما نَقَمُوا) الآية ، ولا يخفى أن الإغناء على الأول أظهر ، وقيل : كان إغناؤهم بما من الله تعالى به من الغنائم فقد كانوا كما قال الكلبي قبل قدوم النبي صلىاللهعليهوسلم المدينة محاويج في ضنك من العيش فلما قدم عليه الصلاة والسلام أثروا بها ، والضمير على هذا يجوز أن يكون للمؤمنين فيكون الكلام متضمنا ذم المنافقين بالحسد كما أنه على الأول متضمن لذمهم بالكفر وترك الشكر ، وتوحيد ضمير فضله لا يخفى وجهه (فَإِنْ يَتُوبُوا) عمّا هم عليه من القبائح (يَكُ) أي التوب ، وقيل : أي التوبة ويغتفر مثل ذلك في المصادر. وقد يقال : التذكير باعتبار الخبر أعني قوله سبحانه : (خَيْراً لَهُمْ) أي في الدارين ، وهذه الآية على ما في بعض الروايات كانت سببا لتوبته وحسن إسلامه لطفا من الله تعالى به وكرما (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أي استمروا على ما كانوا عليه من التولي والإعراض عن إخلاص الإيمان أو أعرضوا عن التوبة.
(يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا) بمتاعب النفاق وسوء الذكر ونحو ذلك ، وقيل : المراد بعذاب الدنيا عذاب القبر أو ما يشاهدونه عند الموت ، وقيل : المراد به القتل ونحوه على معنى أنهم يقتلون إن أظهروا الكفر بناء على أن التولي مظنة الإظهار فلا ينافي ما تقدم من أنهم لا يقتلون وأن الجهاد في حقهم غير ما هو المتبادر.
(وَالْآخِرَةِ) وعذابهم فيها بالنار وغيرها من أفانين العقاب (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي في الدنيا ، والتعبير بذلك للتعميم أي ما لهم في جميع بقاعها وسائر أقطارها (مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة ، وخص ذلك في الدنيا لأنه لا ولي ولا نصير لهم في الآخرة قطعا فلا حاجة لنفيه.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) إلخ فيه إشارة إلى علو مقامه صلىاللهعليهوسلم ورفعة شأنه على سائر الأحباب حيث آذنه بالعفو قبل العتاب ، ولو قال له : لم أذنت لهم عفى الله عنك لذاب ، وعبر سبحانه بالماضي المشير إلى سبق الاصطفاء لئلا يوحشه عليه الصلاة والسلام الانتظار ويشتغل قلبه الشريف باستمطار العفو من سحاب ذلك الوعد المدرار ، وانظر كم بين عتابه جل شأنه لحبيبه عليه الصلاة والسلام على الإذن لأولئك المنافقين وبين رده تعالى على نوح عليهالسلام قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود : ٤٥] بقوله سبحانه : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : ٤٦] إلى قوله تبارك وتعالى : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] ومن ذلك يعلم
__________________
(١) نسخة ما نقموا من بني أمية إلخ ا ه منه