العالي سافلا ، وإنما قلبت كذلك ولم يعكس تهويلا للأمر وتفظيعا للخطب لأن جعل (عالِيَها) الذي هو مقرهم ومسكنهم (سافِلَها) أشق من جعل ـ سافلها عاليها ـ وإن كان مستلزما له ، روي أن لوطا عليهالسلام سرى بمن معه قبل الفجر وطوى الله تعالى له الأرض حتى وصل إلى إبراهيم عليهالسلام ، ثم إن جبريل عليهالسلام اقتلع المدائن بيده ، وفي رواية أدخل جناحه تحت المدائن فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها ، وما أعظم حكمة الله تعالى في هذا القلب الذي هو أشبه شيء بما كانوا عليه من إتيان الإعجاز والإعراض عما تقتضيه الطباع السليمة ؛ ولا ينبغي أن يجعل الكلام كناية عن إنزال أمر عظيم فيها كما يقول القائل : اليوم قلبت الدنيا على فلان لما فيه من العدول عن الظاهر والانحراف عما نطقت به الآثار من غير داع سوى استبعاد مثل ذلك وما ذلك ببعيد ، وإسناد الجعل إلى ضميره تعالى باعتبار أنه المسبب فهو إسناد مجازي باعتبار اللغة وإن كان سبحانه هو الفاعل الحقيقي. والنكتة في ذلك تعظيم الأمر وتهويله فإن ما يتولاه العظيم من الأمور فهو عظيم ، ويقوي ذلك ضمير العظمة أيضا وعلى هذا الطرز قوله سبحانه : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) أي على المدائن أو شذاذ أهلها (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) وكان ذلك زيادة في تفظيع حالهم أو قطعا لشأفتهم واستئصالا لهم.
روي أن رجلا منهم كان بالحرم فبقي حجر معلق بالهواء حتى خرج منه فوقع عليه وأهلكه ، والسجيل الطين المتحجر لقوله تعالى في الآية الأخرى : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) [الذاريات : ٣٣] والقرآن يفسر بعضه بعضا ، ويتعين إرجاع بعضه لبعض في قصة واحدة ، وهو كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد معرب ـ سنك كل ـ.
وقال أبو عبيدة : السجيل ـ كالسجين ـ الشديد من الحجارة ، وقيل : هو من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته ، والمعنى حجارة كائنة من مثل الشيء المرسل أو مثل العطية في الإدرار وهو على هذا خارج مخرج التهكم ، وقيل : من ـ السجل ـ بتشديد اللام وهو الصك ، ومعنى كونه من ذلك أنه مما كتب الله تعالى عليهم أن يعذبهم به ، وقيل : أصله من سجين وهو اسم لجهنم أو لواد فيها ، فأبدلت نونه لاما.
وقال أبو العالية وابن زيد : السجيل اسم لسماء الدنيا. قال أبو حيان : وهو ضعيف لوصفه بقوله سبحانه : (مَنْضُودٍ) أي نضد وضع بعضه على بعض معدا لعذابهم ، أو نضد في الإرسال يرسل بعضه إثر بعض كقطار الأمطار ، ولا يخفى أن هذه المعاني كما تأبى ما قال أبو العالية وابن زيد تأبى بحسب الظاهر ما قيل : إن المراد به جهنم ، وتكلف بعضهم فقال : يمكن وصف جهنم بذلك باعتبار المعنى الأول بناء على أنها دركات بعضها فوق بعض أو أن الأصل منضود فيه فاتسع ، وقد يتكلف بنحو هذا لما قاله أبو العالية وابن زيد وجوز أن يكون (مَنْضُودٍ) صفة حجارة على تأويل الحجر وجره للجوار ، وعليه فالأمر ظاهر إلا أنه من التكلف بمكان (مُسَوَّمَةً) أي عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض قاله ابن جريج ، وقيل : معلمة ببياض وحمرة ، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن ، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أنه كان بعضها أسود فيه نقطة بيضاء وبعضها أبيض فيه نقطة سوداء.
وعن الربيع أنها كانت معلمة باسم من يرمي بها ، وكان بعضها كما قيل : مثل رءوس الإبل ، وبعضها مثل مباركها ، وبعضها مثل قبضة الرجل (عِنْدَ رَبِّكَ) أي في خزائنه التي لا يملكها غيره سبحانه ولا يتصرف بها سواه عزوجل ، والظرف قيل : منصوب ـ بمسومة ـ أو متعلق بمحذوف وقع صفة له ، والمروي عن مقاتل أن المعنى أنها جاءت من عند ربك ، وعن أبي بكر الهذلي أنها معدة عنده سبحانه.
وقال ابن الأنباري : المراد ألزم هذا التسويم للحجارة عنده تعالى إيذانا بقدرته وشدة عذابه فليفهم (وَما هِيَ)