يصيب كل فرد منهم فردا من أفراد العذاب ، وأما فيما نحن فيه فيدل على إحاطة أنواع العذاب المشتمل عليها اليوم بكل فرد ، ولا شك في أبلغية هذا ـ كذا في الكشف ـ وتمام الكلام فيه ، وقال بعض المحققين في بيان الأبلغية : إن اليوم زمان لجميع الحوادث فيوم العذاب زمان جميع أنواع العذاب الواقعة فيه فإذا كان محيطا بالمعذب فقد اجتمع أنواع العذاب له ، وهذا كقوله :
إن المروءة والسماحة والندى |
|
في قبة ضربت على ابن الحشرج |
فإن وقوع العذاب في اليوم كوجود الأوصاف في القبة ، وجعل اليوم محيطا بالمعذب كضرب القبة على الممدوح فكما أن هذا كناية عن ثبوت تلك الأوصاف له كذلك ذاك كناية عن ثبوت أنواع العذاب للمعذب ، وأما وصف العذاب بالإحاطة ففيه استعارة إحاطته لاشتماله على المعذب فكما أن المحيط لا يفوته شيء من أجزاء المحاط لا يفوت العذاب شيء من أجزاء المعذب ، وهذه الاستعارة تفيد أن العذاب لكل المعذب ؛ وتلك الكناية تفيد أن كل العذاب له ، ولا يخفى ما بينهما من التفاوت في الأبلغية ، وجوز أن يكون (مُحِيطٍ) نعتا ـ لعذاب ـ وجر للجوار ، وقيل : هو نعت ـ ليوم ـ جار على غير من هو له ، والتقدير ـ عذاب يوم محيط عذابه ـ وليس بشيء كما لا يخفى ، وأيا ما كان فالمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال في الدنيا ، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الخير برخص السعر. والعذاب بغلائه.
(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي أتموهما ، وفائدة التصريح بذلك مع أن الانتهاء المطلوب من النهي السابق لا يتحقق بدون الإتمام فيكون مطلوبا تبعا ، وهذا مسلم على المذاهب جعل النهي عن الشيء عين الأمر بالضد أو مستلزما له تضمنا أو التزاما لأن الخلاف في مقتضى اللفظ لا أن التحريم أو الوجوب ينفك عن مقابلة الضد غير واحدة النعي بما كانوا عليه من القبيح وهو النقص مبالغة في الكف ، ثم الأمر بالضد مبالغة في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الإشعار بتبعية الكف عكسا ، وتقييده بقوله سبحانه : (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان ، ثم إدماج أن المطلوب من الإتمام العدل ، ولهذا قد يكون الفضل محرما كما في الربويات ، وإلى هذا يشير كلام الزمخشري ، وظاهره حمل المكيال والميزان على ما يكال ويوزن ، وحملهما بعضهم في الموضعين على الآلتين المعروفتين ، وفسر القسط بما ذكرنا ثم قال : إن الزيادة في الكيل والوزن وإن كانت تفضلا مندوبا إليه لكنها في الآلة محظورة كالنقص ، فلعل الزائد للاستعمال عند الاكتيال والناقص للاستعمال عند الكيل.
وفائدة الأمر بتسوية الآلتين وتعديلهما بعد النهي عن نقصهما المبالغة في الحمل على الإيفاء والمنع والبخس ، والتنبيه على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معيارا لظلمهم وقانونا لعدوانهم ، وفيه حمل اللفظ على المتبادر منه ، فإن الحمل على المعنى الآخر مجاز كما أشرنا إليه ، وادعى الفاضل الحلبي أن هذا الأمر بعد النهي السابق ليس من باب التكرار في شيء ، فقال : إن النهي قد كان عن نقص حجم المكيال وصنجات الميزان ، والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن ، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال والميزان للمعهود فلا تكرار كيف ولو كان تكريرا للتأكيد والمبالغة لم يكن موضع الواو لكمال الاتصال بين الجملتين انتهى.
وتعقب بأن حمل هذين اللفظين ـ وقد تكررا ـ في أحد الموضعين على أحد معنيين متغايرين خلاف الظاهر ، وأن في التكرار من الفوائد ما جعله أقوى من التأسيس فلا ينبغي الهرب منه ، وأما العطف فلأن اختلاف المقاصد في ذينك المتعاطفين جعلهما كالمتغايرين فحسن ذلك ، وقد صرح به أهل المعاني في قوله سبحانه: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) [البقرة : ٤٩ ، إبراهيم : ٦] انتهى.