(مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعضها وهو ما عدا المظالم وحقوق العباد على ما قيل ، وهو مبني على أن الإسلام إنما يرفع ما هو من حقوق الله تعالى الخالصة له دون غيره ، والذي صححه المحدثون في شرح ما صح من قوله صلىاللهعليهوسلم : «إن الإسلام يهدم ما قبله» أنه يرفع ما قبله مطلقا حتى المظالم وحقوق العباد ، وأيد ذلك بظاهر قوله تعالى في آية أخرى : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران : ٣١ ، الأحزاب : ٧١] بدون من ، و (مِنْ) هنا ذهب أبو عبيدة. والأخفش إلى زيادة (مِنْ) فيما هي فيه ، وجمهور البصريين لا يجوزون زيادتها في الموجب ولا إذا جرت المعرفة كما هنا فلا يتأتى التوفيق بذلك بين الآيتين ، وجعلها الزجاج للبيان ويحصل به التوفيق ، وقيل : هي للبدل أي ليغفر لكم بدل ذنوبكم ونسب للواحدي.
وجوز أيضا أن تكون للتبعيض ويراد من البعض الجميع توسعا. ورد الإمام الأول بأن (مِنْ) لا تأتي للبدل ، والثاني بأنه عين ما نقل عن أبي عبيدة. والأخفش وهو منكر عند سيبويه والجمهور وفيه نظر ظاهر ، ولو قال : إن استعمال البعض في الجميع مسلم وأما استعمال من التبعيضية في ذلك فغير مسلم لكان أولى. وفي البحر يصح التبعيض ويراد بالبعض ما كان قبل الإسلام وذلك لا ينافي الحديث وتكون الآية وعدا بغفران ما تقدم لا بغفران ما يستأنف ويكون ذاك مسكوتا عنه باقيا تحت المشيئة في الآية والحديث ، ونقل عن الأصم القول بالتبعيض أيضا على معنى إنكم إذا آمنتم يغفر لكم الذنوب التي هي الكبائر وأما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في نفسها مغفورة ، واستطيب ذلك الطيبي قال : والذي يقتضيه المقام هذا لأن الدعوة عامة لقوله سبحانه : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) كأنه قيل : أيها الشاكون الملوثون بأوضار الشرك والمعاصي إن الله تعالى يدعوكم إلى الإيمان والتوحيد ليطهركم من أخباث أنجاس الذنوب فلا وجه للتخصيص أي بحقوق الله تعالى الخالصة له ، وقد ورد (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] و «ما» للعموم سيما في الشرط ، ومقام الكافر عند ترغيبه في الإسلام بسط لا قبض ، والكفار إذا أسلموا إنما اهتمامهم في الشرك ونحوه لا في الصغائر ، ويؤيده ما روي أن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله تعالى لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وعبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرم الله تعالى فنزلت (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٣] الآية ، وقصة وحشي مشهورة ، وجرح ذلك القاضي فقال : إن الأصم قد أبعد في هذا التأويل لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر وإنما تكون الصغيرة مغفورة من الموحدين من حيث إنه يزيد ثوابهم على عقابها وأما من لا ثواب له أصلا فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرا ولا يكون شيء منها مغفورا ، ثم قال : وفي ذلك وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإيمانه فلا يكون المغفور إلا ما ذكره وتاب منه اه. ولو سمع الأصم هذا التوجيه لأخذ ثأره من القاضي فإنه لعمري توجيه غير وجيه ؛ ولو أن أحدا سخم وجه القاضي لسخمت وجهه ، وقال الزمخشري : إن الاستقراء في الكافرين أن يأتي (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) وفي المؤمنين (ذُنُوبِكُمْ) وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوي في الميعاد بين الفريقين.
وحاصله على ما في الكشف أن ليس مغفرة بعض الذنوب للدلالة على أن بعضا آخر لا يغفر فإنه من قبيل دلالة مفهوم اللقب ولا اعتداد به ، كيف وللتخصيص فائدة أخرى هي التفرقة بين الخطابين بالتصريح بمغفرة الكل وإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتا عنه لئلا يتكلوا على الإيمان. وفيه أيضا أن هذا معنى حسن لا تكلف فيه.
واعترض ابن الكمال بأن حديث التفرقة إنما يتم لو لم يجىء خطاب على العموم وقد جاء كذلك في سورة الأنفال في قوله سبحانه : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) وأجيب بأن هذا غير وارد إذ المراد التفرقة فيما ذكر فيه صيغة ويغفر ذنوبكم لا مطلق ما كان بمعناه ولذا أسند الأمر إلى الاستقراء ، ومثل الزمخشري لا يخفى عليه