وقيل : المعنى انا تبع لكم لا لرأينا ولذا سماهم الله تعالى ضعفاء ، ولا يلزم منه كون الرؤساء أقوياء الرأي حيث ضلوا وأضلوا ، ولو حمل الضعف على كونهم تحت أيديهم وتابعين لهم كان أحسن وليس بذاك.
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) استفهام أريد به التوبيخ والتقريع ، والفاء للدلالة على سببية الاتباع للاغنياء ، وهو من الغناء بمعنى الفائدة ، وضمن معنى الدفع ولذا عدي بعن أي أنا اتبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال فهل أنتم اليوم دافعون عنا (مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله تعالى بناء على ما قيل : إن (مِنْ) الثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول للوصف السابق والأولى للبيان وهي واقعة موقع الحال من مجرور الثانية لأنها لو تأخرت كانت صفة له وصفة النكرة إذا قدمت أعربت حالا. واعترض هذا الوجه بأن فيه تقديم من البيانية على ما تبينه وهو لا يجوز ، وكذا تقديم الحال على صاحبها المجرور.
وأجيب بأن في كل من هذين الأمرين اختلافا ، وقد أجاز جماعة تقديم (مِنْ) البيانية وصححه ذلك لأنه إنما يفوت بالتقديم الوصفية لا البيانية ، وكذا أجاز كثير كابن كيسان وغيره تقديم الحال على صاحبها المجرور فلعل الذاهب إلى هذا الوجه في الآية يرى رأي المجوزين لكل من التقديمين.
وقال بعض المدققين : جاز تقديم هذه الحال لأنها في الحقيقة عما سد مسده من شيء أعني بعض لا عن المجرور وحده ، وفيه من البعد ما لا يخفى ، وجوز أن تكون الأولى والثانية للتبعيض ، والمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله تعالى ؛ والأعراب كما سبق ، واختار بعضهم على هذا كون الحال عما سد مسده من شيء إذ لو جعل حالا عن المجرور لآل الكلام إلى هل أنتم مغنون عنا بعض بعض عذاب الله تعالى ولا معنى له ، وفيه أنه يفيد المبالغة في عدم الغناء كقولهم : أقل من القليل فنفي المعنى لا معنى له ، ولا يصح الإلغاء إذ لا يصح أن يتعلق بفعل ظرفان من جنس دون ملابسة بينهما تصحح التبعية ، وجعل الثاني بدلا من الأول يأباه ـ كما في الكشف ـ اللفظ والمعنى ؛ وقد تعقب أبو حيان توجيه التبعيض في المكانين كما سمعت بأن ذلك يقتضي البدلية فيكون بدل عام من خاص لأن (مِنْ شَيْءٍ) أعم من قوله : (مِنْ عَذابِ) وهذا لا يقال : لأن بعضية الشيء مطلقة فلا يكون لما بعض ، ومما ذكرنا يعلم ما فيه.
وجوز أن تكون الأولى مفعولا والثانية صفة مصدر سادة مسده ، والشيء عبارة عن إغناء ما أي فهل أنتم مغنون عنا بعض عذاب الله بعض الإغناء. وتعقب بأنه يلزم على هذا أن يتعلق بعامل طرفان إلى آخر ما سمعت آنفا ، وفيه نظر لأنه لكون أحدهما في تأويل المفعول به والآخر في تأويل المفعول المطلق صح التعلق ولم يكونا من جنس واحد ، وقد يقال : إن تقييد الفعل بالثاني بعد اعتبار تقييده بالأول فليس العامل واحدا.
ونص الحوفي وأبو البقاء على أن (مِنْ) الثانية زائدة للتوكيد وسوغ زيادتها تقدم الاستفهام الذي هو هنا في معنى النفي ، و (مِنْ عَذابِ اللهِ) إما متعلق ـ بمغنون ـ أو متعلق بمحذوف وقع حالا من (شَيْءٍ) أي شيئا كائنا من عذاب الله تعالى أو مغنون من عذاب الله غناء ما (قالُوا) أي المستكبرون جوابا عن توبيخ الضعفاء وتقريعهم واعتذارا عما فعلوا بهم : (لَوْ هَدانَا اللهُ) إلى الإيمان ووفقنا له (لَهَدَيْناكُمْ) ولكن ضللنا فضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا ، وحاصله على ما قيل : إن ما كان منا في حقكم هو النصح لكن قصرنا في رأينا ، وقال الزمخشري : إنهم وركوا الذنب في ضلالهم واضلالهم على الله تعالى وكذبوا في ذلك ، ويدل على وقوع الكذب من أمثالهم يوم القيامة قوله تعالى حكاية عن المنافقين : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) [المجادلة : ١٨] وقد خالف في ذلك أصول مشايخه لأنهم لا يجوزون صدور الكذب عن أهل القيامة فلا يقبل منه ،