وأنفقوا. (يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) والفعل المذكور مجزوم على أنه جواب (قُلْ) عندهم. وأورد أنه لا يلزم من قوله عليه الصلاة والسلام : أقيموا وأنفقوا أن يفعلوا. ورد بأن المقول لهم الخلص وهم متى أمروا امتثلوا ، ومن هنا قالوا : إن في ذلك إيذانا بإكمال مطاوعتهم وغاية مسارعتهم إلى الامتثال ، ويشد عضد ذلك حذف المقول لما فيه من إيهام أنهم يفعلون من غير أمر ، على أن مبنى الإيراد على أنه يشترط في السببية التامة وقد منع. وجعل ابن عطية ـ قل ـ بمعنى بلغ وأد الشريعة والزم في جواب ذلك. وهو قريب مما تقدم.
وحكي عن أبي علي وعزي للمبرد أن الجزم في جواب الأمر المقول المحذوف ، وتعقبه أبو البقاء بأنه فاسد لوجهين : الأول أن جواب الشرط لا بد أن يخالف فعل الشرط إما في الفعل أو في الفاعل أو فيهما فإذا اتحدا لا يصح كقولك : قم تقم إذ التقدير هنا إن يقيموا يقيموا. والثاني أن الأمر المقدر للمواجهة والفعل المذكور على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا. وقيل عليه : إن الوجه الأول قريب ، وأما الثاني فليس بشيء لأنه يجوز أن تقول : قل لعبدك أطعني يطعك وإن كان للغيبة بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال.
وعن أبي علي وجماعة أن (يُقِيمُوا) خبر في معنى اومر وهو مقول القول. ورد بحذف النون وهي في مثل ذلك لا تحذف ، ومنه قوله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ) إلى قوله سبحانه : (تُؤْمِنُونَ) [الصف : ١٠ ، ١١] إذ المراد منه آمنوا ، والقول بأنه لما كان بمعنى الأمر بني على حذف النون كما بني الاسم المتمكن في النداء على الضم في نحو يا زيد لما شبه بقبل وبعد ما لم يبن إنما لوحظ فيه لفظه مما لا يكاد يلتفت إليه ، وذهب الكسائي. والزجاج وجماعة إلى أنه مقول القول وهو مجزوم بلام أمر مقدرة أي ليقيموا وينفقوا على حد قول الأعشى :
محمد تفد نفسك كل نفس |
|
إذا ما خفت من أمر تبالا |
وأنت تعلم أن إضمار الجازم أضعف من إضمار الجار إلا أن تقدم (قُلْ) نائب منابه ؛ كما أن كثرة الاستعمال في أمر المخاطب ينوب مناب ذلك. والشيء إذا كثر في موضع أو تأكد الدلالة عليه جاز حذفه ، منه حذف الجار من أني إذا كانت بمعنى من أين ، وبما ذكرنا من النيابة فارق ما هنا ما في البيت فلا يضرنا تصريحهم فيه بكون الحذف ضرورة ، وعن ابن مالك أنه جعل حذف هذه اللام على أضرب. قليل. وكثير. ومتوسط ، فالكثير أن يكون قبله قول بصيغة الأمر كما في الآية ، والمتوسط ما تقدمه قوله غير أمر كقوله :
قلت لبواب لديه دارها |
|
تيذن فإني حمؤها وجارها |
والقليل ما سوى ذلك. وظاهر كلام الكشف اختيار هذا الوجه حيث قال المدقق فيه : والمعنى على هذا أظهر لكثرة ما يلزم من الإضمار ، وإن تقييد الجواب بقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ) إلى (وَلا خِلالٌ) ليس فيه كثير طائل إنما المناسب تقييد الأمر به ، وقال : ابن عطية : ويظهر أن مقول القول (اللهُ الَّذِي) إلخ ولا يخفى ما في ذلك من التفكيك ، على أنه لا يصح حينئذ أن يكون (يُقِيمُوا) مجزوما في جواب الأمر لأن قول (اللهُ الَّذِي) إلخ لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جدا هذا ، والمراد بالصلاة قيل ما يعم كل صلاة فرضا كانت أو تطوعا ، وعن ابن عباس تفسيرها بالصلاة المفروضة وفسر الإنفاق بزكاة الأموال.
ولا يخفى عليك أن زكاة المال إنما فرضت في السنة الثانية من الهجرة بعد صدقة الفطر وإن هذه السورة كلها مكية عند الجمهور ، والآيتين ليست هذه الآية إحداهن عند بعض ، ثم إن لم يكن هذا المأمور به في الآية مأمورا به من قبل فالأمر ظاهر وإن كان مأمورا به فالأمر للدوام فتحقق ذلك ولا تغفل (سِرًّا وَعَلانِيَةً) منتصبان على المصدرية