بقطع الهمزة وكسر النون بوزن أكرمني وهما لغة أهل نجد يقولون : جنبه مخففا وأجنبه رباعيا وأما أهل الحجاز فيقولون : جنبه مشددا ، وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره ثم استعمل بمعنى البعد ، والمراد هنا على ما قال الزجاج طلب الثبات والدوام على ذلك أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وإلا فالأنبياء معصومون عن الكفر وعبادة غير الله تعالى. وتعقب ذلك الإمام بأنه لما كان من المعلوم أنه سبحانه يثبت الأنبياء عليهمالسلام على الاجتناب فما الفائدة في سؤال التثبيت؟ ثم قال : والصحيح عندي في الجواب وجهان : الأول أن عليهالسلام وإن كان يعلم أن الله تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضما لنفسه وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل الله سبحانه وتعالى في كل المطالب ، والثاني أن الصوفية يقولون : الشرك نوعان. ظاهر وهو الذي يقول به المشركون. وخفي وهو تعلق القلب بالوسائط والأسباب الظاهرة والتوحيد المحض قطع النظر عما سوى الله تعالى ، فيحتمل أن يكون مراده عليهالسلام من هذا الدعاء العصمة عن هذا الشرك انتهى ، ويرد على هذا الأخير أنه يعود السؤال عليه فيما أظن لأن النظر إلى السوي يحاكي الشرك الذي يقول به المشركون عند الصوفية فقد قال قائلهم (١) :
ولو خطرت لي في سواك إرادة |
|
على خاطري سهوا حكمت بردتي |
ولا أظن أنهم يجوزون ذلك للأنبياء عليهمالسلام ، وحيث بني الكلام على ما قرروه يقال : ما فائدة سؤال العصمة عن ذلك والأنبياء عليهمالسلام معصومون عنه؟ والجواب الصحيح عندي ما قيل : إن عصمة الأنبياء عليهمالسلام ليست لأمر طبيعي فيهم بل بمحض توفيق الله تعالى إياهم وتفضله عليهم ، ولذلك صح طلبها وفي بعض الآثار أن الله سبحانه قال لموسى عليهالسلام : يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط.
وأنت تعلم أن المبشرين بالجنة على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام كانوا كثيرا ما يسألون الله تعالى الجنة مع أنهم مقطوع لهم بها ، ولعل منشأ ذلك ما قيل لموسى عليهالسلام فتدبر ، والمتبادر من بنيه عليهالسلام من كان من صلبه ، فلا يتوهم أن الله تعالى لم يستجب دعاءه لعبادة قريش الأصنام وهم من ذريته عليهالسلام حتى يجاب بما قاله بعضهم من أن المراد كل من كان موجودا حال الدعاء من أبنائه ولا شك أن دعوته عليهالسلام مجابة فيهم أو بأن دعاءه استجيب في بعض دون بعض ولا نقص فيه كما قال الإمام.
وقال سفيان بن عيينة : إن المراد ببنيه ما يشمل جميع ذريته عليهالسلام وزعم أنه لم يعبد أحد من أولاد إسماعيل عليهالسلام الصنم وإنما كان لكل قوم حجر نصبوه وقالوا هذا حجر والبيت حجر وكانوا يدورون به ويسمونه الدوار ولهذا كره غير واحد أن يقال دار بالبيت (٢) بل يقال طاف به ، وعلى ذلك أيضا حمل مجاهد البنين وقال : لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليهالسلام صنما وإنما عبد بعضهم الوثن ، وفرق بينهما بأن الصنم هو التمثال المصور والوثن هو التمثال الغير المصور ، وليت شعري كيف ذهبت على هذين الجليلين ما في القرآن من قوارع تنعى على قريش عبادة الأصنام. وقال الإمام بعد نقله كلام مجاهد : إن هذا ليس بقوي لأنه عليهالسلام لم يرد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والصنم كالوثن في ذلك ويرد مثله على ابن عيينة ، ومن هنا قيل عليه : إن فيما ذكره كرا على ما فر منه لأن ما كانوا يصنعونه عبادة لغير الله تعالى أيضا : واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان
__________________
(١) هو ابن الفارض قدسسره اه منه.
(٢) ولا يخفى أن هذا من الآداب وإلا فقد ورد «دار» في بعض من الآثار كما قال النووي اه منه.