تظهر إذ ذاك ، ولذا لما تم الأمر وجلدت (١) النسخة فظهرت أنوار الحق وقرئت سطور الأسرار استصغروا أنفسهم (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) لما أعمى الله تعالى عينه عن مشاهدة ما شاهدوه (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) ولو شاهد ذلك لسجد كما سجدوا (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) غلط اللعين في زعمه أنه خير من آدم عليهالسلام ولم يخطر في باله أيضا أن المحب الصادق يمتثل أمر محبوبه كيف كان ، ومن هنا قيل :
لو قال تيها قف على جمر الغضى |
|
لوقفت ممتثلا ولم أتوقف |
وقال بعض أهل الوحدة : إن الملعون ظن أنه مستحكم في توحيده حيث لم يسجد لغيره تعالى ، وقد أخطأ أيضا لأنه لا غير هناك لأن في حقيقة جمع الجمع ترتفع الغيرية وتزول الاثنينية. وأنت تعلم أن هذا بمراحل عما يدل عليه كلامه وأن الغيرية إذا ارتفعت في هذا المقام ترتفع مطلقا فلا تبقى غيرية بين آدم وإبليس بل ولا بينهما وبين شخص من الأشخاص الخارجية والذهنية ، ومن هنا قال قائلهم :
ما آدم في الكون ما إبليس |
|
ما ملك سليمان وما بلقيس |
الكل عبارة وأنت المعنى |
|
يا من هو للقلوب مغناطيس |
وقال الحسين بن منصور :
جحودي لك تقديس |
|
وعقلي فيك منهوس (٢) |
فمن آدم إلاك |
|
ومن في البين إبليس |
وقد انتشر مثل هذا الكلام اليوم في الأسواق ومجالس الجهلة والفساق واتسع الخرق على الراقع وتفاقم الأمر وما له سوى الله تعالى من دافع (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) طريد عن ساحة القرب إذ القرب يقتضي الامتثال وكلما ازداد العبد قربا من ربه ازداد خضوعا وخشوعا (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) لم يرد سبحانه أنه بعد ذلك يحصل له القرب خلافا لبعض أهل الوحدة بل أراد جل وعلا بعض ما قدمناه.
(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي لأزينن لهم الشهوات في الجهة السفلية (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين أخلصتهم لك واصطفيتهم لمحبتك أو المخلصين في طاعتهم لك ولا يلتفتون لأحد سواك ، وفيه من مدح الإخلاص ما فيه ، وفي الخبر «العالم هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر» أي شرف عظيم كما ذكره السيد السند في بعض تعليقاته.
(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) أي الذين يناسبونك في الغواية والبعد (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) عدد الحواس الخمس والقوتين الشهوية والغضبية وهاتان القوتان بابان عظيمان للضلالة المفضية إلى النار. أخرج ابن جرير عن يزيد بن قسيط قال : كانت للأنبياء عليهمالسلام مساجد خارجة من قراهم فإذا أراد أحدهم أن يستنبئ ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله تعالى ثم سأل ما بدا
__________________
(١) هي كلمة مستعملة عند العامة يقولون جلدت الكتاب أي وضعت له جلدا وبهذا المعنى استعملت هنا جريا على المتعارف عندهم وإلا فقد قال بعض الأفاضل : جلدت الكتاب بمعنى أزلت جلده فليحفظ اه منه.
(٢) أصله القليل اللحم من الرجال اه منه.